No Result
View All Result
تحدثنا فى المقالة السابقة عن: الخليفة «هارون الرشيد» الذى يُعتبر من أشهر حكام التاريخ فى الشرق والغرب، والاضطرابات الداخلية والخارجية التى مرت بزمن حكمه، واهتمامه بأمور رعيته، وولاية أبنائه الثلاثة وتقسيمه للبلاد بينهم. وبدأنا الحديث عن أسرة «البَرامِكة» ذات الشأن الكبير فى أيام «هارون الرشيد».
عندما تولى «هارون الرشيد» الحكم ولَّى «يَحيى بن خالد البَرْمَكى» الوَزارة، وفوض إليه شُؤون الدولة لثقته الشديدة به، وكان له خمسة أبناء: «الفضل»، و«جعفر»، و«موسى»، و«خالد»، و«مُحمد»، الذين تولَوا جميعهم وأبناؤهم أرفع المناصب فى أيام حكم «الرشيد». فقد كان «الفضل» توأم «الرشيد» فى الرضاعة، وعندما وُلد «الأمين» «للرشيد» عهد به إليه ليهتم بتربيته، وقد ذكرنا سابقًا أنه أرسله «خُراسان» عندما قامت ثورتها عليه، فنجح فى تهدئة الثورة. وقد حقق «الفضل» كثيرًا من النجاحات فى غزواته، وعندما عاد إلى «بغداد» ظل فيها يساعد أباه «يَحيى» فى أمور الوَزارة.
أما «جعفر» أخوه، فقد كان ذا أخلاق سامية، وكان «الرشيد» يميل إليه كثيرًا، وقد أرسله لإخضاع ثورة بـ«الشام» فنجح فى مُهمته نجاحًا كبيرًا فولّاه على «مِصر»، لكنه أبقاه جواره وعهِد له بابنه «المأمون». ثم تولى «جعفر» الوَزارة بدلاً من أبيه «يَحيى» الذى- طلبًا لبعض الراحة- كان قد تنازل عن الوَزارة لابنه «الفضل»، ولكن «الرشيد» طلب منه أن يُرسِل إلى «الفضل» أن يتنازل عن الوَزارة لأخيه «جعفر»، فكتب «يَحيى»: «قد أمر أمير المؤمنين- أعلى الله أمره- أن تحوِّل الخاتَِم من يمينك إلى شَمالك». فأجابه «الفضل»: «قد سمِعتُ ما أمر به أمير المؤمنين فى أخى، وما انتقلتْ عنى نعمة صارت إليه، ولا غرَبتْ (تنحَّت) عنى رتبة طلعَتْ (أقبلَتْ) عليه». وهكذا تولى «جعفر» أمور الوَزارة فى الدولة العباسية خلفًا لأبيه «يَحيى»، فعمِل إلى خير الدولة وتنظيم شُؤونها وحساباتها، وأقام رجالاً أطلق عليهم اسم «رجال العدالة» مُهمتهم مراقبة حركات البيع والشراء، ونظّم شرطة «بغداد»، ونجح فى أعماله حتى إن ثقة «هارون الرشيد» زادت به فأنابه عنه فى القضاء برد المظالم، وكان هذا المركز لا يباشره إلا الخلفاء. وهكذا تعظم شأن «البَرامِكة» وصار لهم سلطانًا عظيمًا وثروا ثراءً بالغًا. ويذكر المؤرخون عن عائلة «البَرامِكة»: «… ولقد اشتُهرت بالسخاء والكرم وبذل الأموال للسائلين، فأحبها الناس حبًّا جمًّا، والتف الشعب حولها التفافًا لم يسبق له نظير، فأثاروا بذلك حسد كثيرين من أمراء العرب خصوصًا «آل الربيع» و«آل مزيد الشيبانى»، فتضافروا حتى أوقعوا بينهم وبين «الرشيد» ففتك بهم فتكًا ذريعًا وصادر ممتلكاتهم»! فقد أرسل «هارون الرشيد» من قبض على «جعفر» ثم أمره بقتله، وفى الليلة نفسها أرسل من قبض على «يَحيى بن خالد» وجميع أبنائه وكل شيعته وأمر بإيداعهم السجن، ثم أرسل إلى الوُلاة أن يصادروا ممتلكات عائلة «البَرامِكة» وثرواتها.
أمّا عن أسباب الوقيعة تلك، فقد اختلف المؤرخون فيها اختلافًا شديدًا فيقول «الطبرى»: «أما سبب غضبه عليه (أى على «جعفر») الذى قتله عنده، فإنه مختلَف فيه»، ومن جملة أسباب «نكبة البَرامِكة» التى ذكرها المؤرخون:
ـ أن الخليفة «هارون الرشيد» غضِب غضبًا شديدًا على «جعفر» عندما أُبلغ- من «الفضل بن الربيع» الذى عدها فرصته السانحة للتخلص من «جعفر»- أنه أطلق سراح «يَحيى العَلَوى» دون أمره، فتظاهر بعدم اهتمامه بالأمر، ثم بدأ يرتاب فى إخلاص «البَرامِكة» له وأنهم يعملون لأجل منفعة العَلَويِّين دون مصلحته.
ـ نسب بعض المؤرخين أن سبب تلك الفتنة يعود إلى مجرد الملل والغيرة، فقال أحدهم: «واللهِ ما كان منهم ما يوجِب بعض عمل «الرشيد» بهم، ولكن طالت أيامهم وكل طويل مملول (سبب للملل)…».
ـ وقال آخرون إن المكانة التى تبوأها أفراد عائلة «البَرامِكة»، وسلطانهم، وثروتهم، جعلت الخليفة يخاف على مكانته ومكانة أبنائه من بعده، ما جعله يترقب فرصة للتخلص منهم، وقدموا دليلاً على ذلك: الرواية التى تقول إن «إبراهيم بن المهدى» زار «جعفر البَرْمَكى» فى قصره، فسأله «جعفر»: «أتَرى فى دارى عيبًا؟» أجابه «إبراهيم»: «الذى يعيبها عندى أنك أنفقت عليها نحو عشرين ألف ألف درهم، وهو شىء لا أَأْمنه عليك غدًا بين يدَى أمير المؤمنين!». فقال له «جعفر»: «سأقول: هذه نِعم أمير المؤمنين علىّ وضعتُها فوق تل عالٍ، وقلتُ: يا قوم، اُنظروا نِعم الخليفة علىّ، إن الناس يُخفون نعمه، وأنا أتحدث بها!».
ـ ربط بعض المؤرخين بين أصل «البَرامِكة» وديانتهم الماجوسية وبين فتك «الرشيد» بهم: إذ قالوا إنهم حاولوا إعادة دين «المجوس»، وأنهم أدخلوا النار فى «الكعبة» حتى تُعبد هناك؛ ولكن لا سند قويًّا لهذا الادعاء.
ـ ذكر بعض المؤرخين العرب- ونقل عنهم مؤرخو الغرب- سببًا يرتبط بأخت «هارون الرشيد» وتُدعى «عباسة بنت المهدى»: أنها تزوجت من «جعفر» سرًّا بعلم «الرشيد»، وحملت ووضعت وأرسلت مولودها إلى «مكة»، والخليفة علِم بالسر فقرر قتل «جعفر».
ـ أما «ابن خلدون» فقد ذكر: «إنما نَكْب (مصيبة) «البَرامِكة»: ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجانهم (أى جمعهم لأنفسهم) أموال الجباية حتى كان «الرشيد» يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره وشاركوه فى سلطانه، ولم يكُن له معهم تصرف فى أمور مُلكه، فعظُمت آثارهم وبعُد صيتهم، وعمّروا مراتب الدولة وخُططها بالرؤساء مِن وُِِلدهم وصنائعهم (أعمالهم) واحتازوها (امتلكوها) عمن سواهم من: وَزارة، وكتابة، وقيادة، وحجابة، وسيف، وقلم… فتوجه الإيثار من السلطان (تفضيل الولاء) إليهم… وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوُجوه، وخضعت لهم الرقاب، وقُصرت عليهم الآمال، وتخطت إليهم من أقصى التُّخوم هدايا المُلوك وتحف الأمراء، وتسربت إلى خزائنهم فى سبيل التزلف (التقرُّب) والاستمالة أموال الجباية، وأفاضوا فى رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء وطوقوهم المِنَن (العطايا والنعم)… حتى آسَفوا البِطانةَ (جعلوا بِطانتهم تأسَف أى خواصهم وأصفياءهم المقرَّبين يندمون ويحزنون)، وأحقدوا الخاصة (جعلوا أفرادها يَحقِدون)، وأغَصَّوا أهل الولاية (ضيَّقوا عليهم)، فكُشف لهم وُجوه المنافسة والحسد، ودبت إلى مِهادهم (فِراشهم والمراد مأمنهم) الوثير (الواسع) من الدولة عقارب السعاية، حتى لقد كان «بنو قحطبة» أخوال «جعفر» من أعظم الساعين عليهم».
وقد ظل «يَحيى» مسجونًا حتى مات فى سجنه عام (١٩٠هـ) (٨٠٥ م)، ومات من بعده بثلاث سنوات ابنه «الفضل». ولما تولى «المأمون» الحكم، أعاد للأحياء من «البَرامِكة» ممتلكاتهم، ورفع منزلتهم. وكان «للبرامِكة» آثار واضحة فى العلم والأدب: فقد كان «يَحيى بن خالد» من أعظم أدباء عصره وأكثرهم فصاحة وبلاغة. وهكذا كان «جعفر بن يَحيى» صاحب لسان فصيح وبلاغة رفيعة حتى ذكر عنه «ابن خلدون»: «وقد كان (جعفر بن يَحيى) يوقِّع القِصص بين يدَى «الرشيد» ويرمى بالقصة إلى صاحبها، فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء فى تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفُنونها، حتى قيل إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار…». أيضًا نشطت حركة الترجمة فى العصر العباسى بفضل «البَرامِكة» فقد حثوا على نقل العُلوم القديمة من «الرومانية» و«اليونانية» و«الفارسية» و«الهندية» إلى «العربية». ويذكر أ. د. «شوقى ضيف» فى كتابه «تاريخ الأدب العربى العصر العباسى الأول» أن «يَحيى بن خالد» طلب إلى بطريرك الإسكندرية أن يترجم كتابًا فى الزراعة من «اللاتينية» إلى «العربية» فترجمه. كذلك اهتم «البَرامِكة» بالطب فأقاموا مستشفى باسمهم، واهتموا بإحضار أطباء «الهند» إلى «بغداد». وكان «للبرامِكة» خبرة واسعة فى فن العمارة فقد ذكر «الطبرى»…. وفى… «مِصر الحُلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
No Result
View All Result