استوقفتني كلمات الشاعر المفكر الكاتب اللُّبنانيّ “ميخائيل نعيمة”: “ما أكثر الناس، وما أندر الإنسان!”. لقد خُلق الإنسان على صورة الله ومثاله، وبذٰلك هو يحوي صفات الخير، وإن كانت فيه بدرجة محدودة، في حين هي غير محدودة في الله. وقد وُضع الإنسان في الأرض ليعملها ويحفظها، وبذٰلك أصبح لكل شخص رسالة بناء في الحياة، فيوجد من يتمم رسالته، وهناك من يبتعد عنها فلا يجد إلا التيه في دُروب الحياة. وهنا أتوقف عند بعض سمات الإنسان الحقيقيّ:
يُدرك قيمة الحياة
الإنسان الحقيقيّ يُدرك قيمة الحياة التي وُهبت له من الله ويَعِي رسالته؛ فنجده يضع لنفسه الأهداف، ويسعى نحوها، جاهدًا، دون يأس أو تخاذل أمام عقبات الطريق. أمّا عن معاملاته نحو الآخرين، فهو يُدرك أن: “الحياة أقصر من أن نضيعها في تسجيل الأخطاء التي ارتكبها غيرنا في حقنا، ونشر روح العداء بين البشر.”. فنراه يتجاوز أخطاء الآخرين سريعـًا لئلا يفقد لحظات العمر الثمينة التي وهبها الله له في كراهية إنسان ما، أو التفكير في كيفية الانتقام من أحد؛ لذٰلك، فهو يثبّت أنظاره في طريق الحياة نحو أهدافه العظيمة ورسالته، دون أن يضيع منه “الزمن” الذي لا يستطيع استعادته على الإطلاق.
لا ينحصر في ذاته
ثَمة أمر آخر، وهو أن الإنسان الحقيقي يُدرك أنه جزء من العالم وليس هو العالم بأسره! فهو لا ينحصر حول ذاته وأفكاره وآلامه وسعادته فقط، بل يسعى عبر رحلة الحياة بأفْق متسع ورؤية واضحة يُمكّناه من استيعاب الأفكار المقدَّمة إليه، وانتقاء ما يلائم منها للحياة التي يريد أن يحياها. كذلك فإنه يستمع للآخرين من حوله كي يتفهمهم على نحو صحيح. وأيضـًا يُدرك أن تجارِب الآخرين والأحداث والتاريخ هي مصادر يتعلم منها، فتضحى هٰذه الخبرات رصيدًا له في مسيرة حياته. وهنا أتذكر بيت الشعر القائل:
مَنْ وَعَى التّارِيخَ فِي صَدْرِهِ أَضافَ أَعْمارًا إِلَى عُمْرِهِ
عادل في مواقفه
ولأن الإنسان الحقيقيّ يُدرك رسالته، ولا ينحصر حول ذاته، فهو إنسان عادل: يعترف بالآخرين في المجتمع، وبحقوقهم، ويحترمها؛ فالآخر دائمـًا بالنسبة إليه هو شخص مساوٍ له في الكرامة. إن كل أفراد المجتمع لهم الحقوق نفسها، وعليهم الواجبات عينها، ويجب على الجميع أن يحترموا حرياتهم بعضهم بعضـًا، كما قيل: “إن حريتك تنتهي عند بَدء حرية الآخر”. وفي حكمه على الأمور، لا يتغير قضاؤه، بل يَحكمه الحق؛ فهو لا يحمل ضميرًا متلونـًا في حكمه يتغير بتغير طالب العدالة: فقيرًا كان أو من ذوي القدرة والسلطان، عدُوًّا أو صديقـًا. قرأتُ قصة عن صديقين حميمين قضَّيا طفولتهما سويـًّا في اللَّعِب، ثم درَسا معـًا حتى انتهَيا من دراستهما الجامعية في كلية القانون. ثم بدأ كل منهما طريق الحياة، فتقدم أحدهما في مهنته ونال ترقيات عديدة حتى صار قاضيـًا، أمّا الثاني فقد تعثر في طريقه وسقط فريسة الخمر والقِمار حتى فقدَ كل الأشياء ومنها وظيفته.
وفي أحد الأيام، ألقى رجال الأمن القبض على الصديق الثاني الذي خالف النظام وكسر القوانين، وكانت تنتظره محاكمة أمام القضاء. وفي يوم المحاكمة، التقى الصديقان القديمان مرة ثانية، أحدهما متهم والآخر قاضٍ! ووقف الجميع قدام القاضي، وعُرضت وقائع الدعوى، وتحدث الادعاء ثم محامو المدَّعَى عليه. وأخيرًا جاء دور القاضي الذي حكم على المتهم ـ صديقه وزميله ـ بأقصى عقوبة ماليّة، وهو يعلم أن القانون يُعطيه الحق بتخفيف العقوبة إلى النصف! وفجأة عقدت الدهشة ألسنة الجميع، وهم يشاهدون القاضي وهو يُخرج المال الكافي لتسديد العقوبة نيابةً عن صديقه من جيبه الخاص، ويحرره فورًا! لقد كان القاضي إنسانـًا عادلاً في موقفه، أمينـًا في تنفيذ القانون، وفي الوقت نفسه محبـًّا لصديقه يمُد له يد المساعدة دون أن يَكسِر العدل.
أمين في وَكالته
والإنسان الحقيقيّ نجده إنسانـًا أمينـًا مخلصـًا في حياته مع الله، ومع نفسه، ومع الآخرين. وتبرُز أمانة الإنسان مع الله في حفظه وصاياه وتعاليمه، ورفضه عمل الشر. ويُعد “يوسُِف الصِّديق” من أبرز أمثلة الأمانة وأوضحها حين رفض أن يفعل الشر. والأمانة تجاه الله ليست فقط رفض الشر، بل أن تفعل الخير للجميع ما دام في إمكانك أن تؤديه، حتى إن لم يُدرك البشر ما فعلته من خير، فالله وحده يعرِف ويجازي كل إنسان بحسب أمانته.
وأيضـًا هو أمين تجاه نفسه؛ فهو يعرِف نقائصه وعُيوبه ويحاول إصلاحها بكل جِد وإخلاص، دون تقديم المبررات والأسباب الواهية في محاولة لخداع نفسه أو من حوله. كذٰلك فهو يعرف مواهبه وقدراته التي وهبها الله له لكي يَصقُلها، ويتدرب عليها، ويستخدمها في حياته لفائدة نفسه، ولخدمة الآخرين. إن الإنسان الأمين يكون مخلصـًا فيما يُسند إليه من عمل، ويؤديه على خير وجه. فلكل منا حسب موقعه: مسؤولاً، عاملاً، موظفـًا، طالبـًا؛ دوره فيما أُوكل إليه الذي يجب أن يؤديه بأمانة وإيجابية، وبضمير صالح وخيِّر.
يبني لا يَهدِم
الإنسان الحقيقيّ يؤازر الآخرين ويعلمهم ويبني معهم، لا يَهدِمهم ليظل هو وحيدًا في قارب الحياة! إنه ينمو ويساعد الآخرين من حوله في أن ينموا هم أيضـًا. يقول أحد مشاهير رجال الأعمال في العالم “راي كروك” مؤسس سلسلة مطاعم “مكدونالدز”: “كلما ساعدتُ الآخرين في النجاح، نجحتُ أنا.”. فاختَر أن تكون ناجحـًا، وأن يزداد نجاحك بمساعدة مَن تلقاه؛ وهٰذا ما فعله أحد رجال الأعمال حين مر بصبيّ فقير يبيع أقلام الرَّصاص في أحد أركان مَِحطة مترو الأنفاق، وكان كل من يمر به يقدم إليه إحسانـًا. توقف رجل الأعمال ووضع دولارًا في كيس الصبيّ، وأسرع لكي يُقِلّه المترو. إلا أنه توقف فجأةً لحظات أمام عربة المترو، ثم عاد إلى الصبيّ، وتناول بعض أقلام الرَّصاص، وقال معتذرًا: يبدو أنني كنتُ مسرعـًا إلى درجة أنني نسِيتُ أخذ الأقلام التي أريد شراءها. وأضاف: إنك رجل أعمال مثلي، ولديك بضاعة تبيعها بأسعار ملائمة حقـًّا! ثم ترك الرجل الصبيّ، منتظرًا أن يُقِلّه قطار المترو التالي. وتنقضي سنوات على تلك الواقعة. وفي إحدى المناسبات التي كان يَحضُرها رجل الأعمال، تقدم شاب أنيق نحوه قائلاً: سيدي، أظن أنك لا تذكرني، وأنا أيضـًا لا أعرِف اسمك، ولٰكني لن أنساك ما حيِيتُ. فأنت من أعاد إليَّ احترامي وتقديري لنفسي بعد ما كنتُ لا أرى نفسي إلا شحّاذًا توضع أمامه بعض أقلام الرَّصاص! فقد أخبرتَني أنني رجل أعمال، وها قد تحقق ما قلتَ!!
يشعر بآلام الآخرين
أيضـًا الإنسان الحقيقيّ هو إنسان يشعر بآلام الآخرين فيمُد يده لمساعدتهم ليخفف عنهم آلامهم وأتعابهم وأحزانهم، وهو أيضـًا يرى مدى احتياج الآخرين ويحاول أن يسدد حاجاتهم لهم دون إحراجهم أو إشعارهم بعمله هٰذا فيختفي هو ويظهر العمل! ولا يهتم إن عرَف الناس عمله نحوهم أو نسبوه إلى آخرين، إذ قلبه الكبير لا يهتم إلا بأن يُعطي ويسعد الذين حوله، وإن ظلموه! وهنا أتذكر قصة عن إحدى القرى الصغيرة التي كان يعيش فيها أناس فقراء، وكان جزار القرية يوزع بعض قطع اللحم عليهم من آن إلى آخر مجانـًّا. وكان يعيش في تلك القرية رسّام عجوز يتقاضى أموالاً كثيرة من بيع لَوحاته الرائعة. وكان أهل القرية يتعجبون من ذٰلك الرسام الذي لا يمُد يد المساعدة إلى أحد، على ما يملِكه من مال وافر!
وذات يوم، قرر أحدهم أن يحادث الرسام، فسأله عن سبب عدم مساعدته لفقراء القرية مثلما يفعل جزار القرية، مع أنه يمتلك كثيرًا من المال. وانتظر الفقير ردًّا، إلا أن الرسام اكتفى بأن ابتسم للفقير بهُدوء ولم يُجِبه بكلمة، وهو ما أثار غضبه جدًّا. خرج الرجل الفقير، وقد أخذ يتحدث إلى أهل القرية عن عدم محبة الرسام لهم وهو الذي في استطاعته أن يُعطيهم مما يملِكه من المال. وصدَّق أهل القرية كلمات الفقير، وقرروا مقاطعة الرسام الذي تعرَّض بعد بُرهة لمرض شديد، وهٰكذا لم يزُره أحد إلى أن مات! ومرت الأيام، ليجد أهل القرية أن الجزار قد توقف عن عادته في توزيع اللحم على الفقراء، فسألوه عن السبب، فأجابهم أن الرسام العجوز كان يُرسل إليه المال اللازم للِّحوم التي يوزعها هو!! وهٰكذا بموت الرجل، توقف المال ومعه اللحم.
أعزائي: إن الإنسان الحقيقيّ يتمتع بصفات كثيرة، كانت هٰذه بعضـًا يسيرًا منها، وفي رحلة الحياة تظهر له سمات أكثر وأعمق، تَطبَع آثارها في الكل، وتكون حياته سراجـًا مضيئـًا لهم في طريق الحياة.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ