يتحدث إنجيل هٰذا الأحد (لو 10: 1-20) عن إرسالية السيد المسيح لرسُْله أمام وجهه لإعداد الشعب بالتوبة، إلى كل مدينة وموضع حيث كان مزمِعًا أن يجيء؛ وقد كانت تلك الإرسالية تدريبًا من السيد للآباء الرسُْل على التبشير والخدمة في أثناء وجوده بينهم بالجسد؛ ومع ذَهابهم وضع أمامهم قواعد الخدمة ومبادئها، ومنها:
• أنه “أرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع”. إن الخدمة والكرازة التي أرسل فيها السيد المسيح رسُْله هي الإرسالية الثانية، وكانت للجميع يهودًا وأممًا دون تحديد، وهي تختلف قليلاً عن إرسالية السيد المسيح الأولى لتلاميذه التي حدد لهم فيها أن تكون خدمتهم وكرازتهم في المدن اليهودية فقط (متى 10: 5-6)؛ ونلاحظ أنه أرسلهم “اثنين اثنين” كي يعضد ويشدد أحدهما الآخر؛ فإنه كثيرًا ما تنتاب البشر ضيقات وآلام وأتعاب يحتاجون معها إلى التشجيع والتعضيد وقتًا، وفي وقت آخر يُعوزهم النصح حال ابتعادهم عن الطريق، وكما يذكر “سُليمان الحكيم”: “اثنان خير من واحد، لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة، لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه. وويل لمن هو وحده إن وقع إذ ليس ثانٍ ليُقيمه!” (الجامعة 4: 9-10).
• أن “الحصاد كثير، ولٰكنّ الفَعَلة قليلون، فاطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فَعَلة إلى حصاده”؛ إن الحصاد هو النفوس والله يهتم بخلاصها. أمّا الزارع فهو الله نفسه الذي يستخدم الفَعَلة أيْ الرسُْل والخدام الذين يُرسلهم؛ وهٰكذا يكون العمل بجملته معمولاً بالله: فالله هو الذي يُعطي المواهب، وهو الذي يعمل بروحه القدوس في داخل القلوب والنُّفوس من أجل إيمانها وتوبتها؛ وبذٰلك يُدرِك الخادم الحقيقيّ أنه لا يمكنه أن يعمل عمل الله بقوة ذاته أو بأفكاره أو بقدراته، بل يردد دائمًا: نعم، يا رب: بدونك لا أقدر أن أفعل شيئًا؛ يقول “القديس أغسطينوس”: “الرب نفسه هو الذي يَبذُر إذ كان (قاطنًا) في الرسُْل، وهو أيضًا الذي يحصُِد؛ فبدونه يُحسبون كلا شيء … إذ يقول: «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا».”. وقد يتعجب بعضٌ من عبارة السيد المسيح: “الفَعَلة قليلون”، إذ يشاهدون عددًا كبيرًا من الخدام في كثير من الكنائس أو الأماكن! وقد يفسر بعضهم الأمر بأن السيد المسيح يقصد قلة عدد الفَعَلة قديمًا وأن ذٰلك الوضع لا ينطبق على الوقت الحاضر؛ ولٰكن هٰذا خطأ: فدائمًا ما يظل الحصاد كثيرًا والفَعَلة الحقيقيُّون المرسَلون من رب الحصاد قليلين. أمّا من أُرسل من تلقاء ذاته، أو من أرسله بشر، فلن يجد سوى مشقة طريق الخدمة التي تغربل كل نفس وتفصل بين الحنطة والزوان، فالعمل ليس سهلاً والطريق ليس رُحبًا واسعًا، ولن يثبُت في المسير إلا من أرسله رب الحصاد.
• أن السيد يخاطب رسُْله: “ها أنا أُرسلكم مثل حُملان بين ذئاب”؛ وهنا يتضح لنا صعوبة الطريق ومشقته لمن يسلك فيه بقدراته الذاتية، متكلاً على ذراعه البشريّ، دون اللُّجوء إلى معونة صاحب الكرم. إنها حُملان وسط ذئاب: والمُهمة الأولى للحُملان التي تعتمد على قدرة راعيها أن تحوّل الذئاب إلى حُملان أخرى! وذٰلك من خلال ما تحمله من محبة ووداعة وإيمان ثابت لا يهتز؛ وفي ذٰلك يقول “القديس يوحنا الذهبيّ الفم”: [إنه فوق كل شيء يعرِف طبيعة الأشياء: أن الشراسة لا تُطفأ بالشراسة، وإنما باللطف.].
• أن السيد يبشرهم: “افرحوا بالحريّ أن أسماءكم كُتبت في السمٰوات” تلك هي نهاية الطريق الضيّق الذي وجده الفعلة الحقيقيُّون الأمناء، وكل من قدم حياته لله ذبيحة حب في كل عمل له؛ إن المكافأة الحقيقية ليست في خُضوع الشياطين لهم وقدرتهم على إجراء المعجزات، بل هي في ملكوت الله حيث يتمتعون بالوجود في حضرة الله واهب السعادة والفرح والحياة