يقدم لنا إنجيل هٰذا الأحد (لو 9: 10-17) عودة الآباء الرسل من خدمتهم التي أرسلهم من أجلها السيد المسيح للتبشير في المدن والقرى بالتوبة واقتراب ملكوت الله؛ ونلاحظ في ذٰلك:
• عندما عاد الآباء الرسل من خدمتهم تحدثوا مع السيد المسيح عن تفاصيل كل عمل قاموا به، فيذكر “الكتاب”: “ولما رجَع الرسل أخبروه بجميع ما فعلوا”، فالسيد المسيح هو المعلم الذي أرسلهم وقدم لهم الوصايا في الطريق وأسلوب خدمتهم؛ وبذٰلك فإنه كان عليهم أن يتحدثوا معه بمجرد عودتهم عن جميع ما فعلوه وما صادفهم في تلك الخدمة؛ ولذا أخذهم السيد المسيح في مكان هادئ يستمع إليهم ويعلمهم ويرشدهم في الطريق. وهٰكذا علينا أن نتعلم أن نضع جميع أمورنا وحياتنا بتفاصيلها كافةً أمام الله، ونطلب إليه أن يعلمنا ويُرشدنا الطريق التي نسلكها وكيف نسلك. يقول “القديس أغسطينوس”: “إلٰهي: أنت نوري، افتح عينيَّ فتُعاينا بهاءك الإلٰهيّ؛ لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثُّر في فخاخ العدُو. حقًّا، كيف يمكنني أن أتجنب فخاخه ما لم أرَها؟! وكيف أقدر أن أراها إن لم أستنِر بنورك؟!”.
• أسرعت الجُموع إلى حيث السيد المسيح جالس مع تلاميذه ليقدم لهم حاجاتهم، فقدم لهم أولاً ملكوت الله: “فالجُموع إذ علِموا تبِعوه، فقبِلهم وكلمهم عن ملكوت الله …”؛ نعم، إن السيد المسيح يُريد أن يعلِّمنا أن الاهتمام الأول للإنسان يجب أن يكون بطلبه ملكوت السماوات حيث الحياة الأبدية والسعادة الحقيقية له. ويرسُِم لنا “القديس يوحنا الحبيب” صورة السماء: “«هوَذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلٰها لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد … ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإلٰه يُنير عليهم، وهم سيملِكون إلى أبد الآبدين.” (رؤ 21: 3-4 و22: 5).
• حين يضع الإنسان هدفه الأول ملكوت السماوات فسيهتم الله بجميع أمور حياته؛ فمن يطلب الشفاء سيجد الشفاء النفسيّ والروحيّ إذ: “المحتاجون إلى الشفاء شفاهم”، ومن يحتاج إلى الطعام سيجده أيضًا فالله يهتم بجميع حاجات الإنسان الجسدية إذ هو خالقه. فقط: يحتاج الإنسان إلى الثقة بتدبيرات الله التي تمتلئ خيرًا لخليقته. وهنا يقدم السيد المسيح درسًا لتلاميذه وللجموع في الاتكال على الله إذ أشبع آلافًا بخمسة أرغفة وسمكتين!! إذ أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين: “ورفع نظره نحو السماء وباركهن، ثم كسَّر وأعطى التلاميذ ليقدموا للجمع. فأكلوا وشبِعوا جميعًا. ثم رُفع ما فضل عنهم من الكِسَر اثنتا عشْرة قُفة.”. إن المشكلة الحقيقية تكمن في أعماق الإنسان، إذ يجد صعوبة في وضع ثقته المطلقة بالله؛ أمّا الله فهو هو منذ الأزل وإلى الأبد: إلٰه المستحيل ولا يعسُر عليه أمر.