“تسلل إلى شرفة غرفته المطلة على سفح أحد الجبال، الذى تغطى قممه الثلوج فى هٰذا الموسم من العام، وألقى بناظرَيه نحو السماء وقد امتلأت بالنُّجوم، وأطلق العِنان لفكره الشريد! فما هى إلا دقائق قليلة ويبدأ عام جديد اعتاد أن يحتفل بقدومه وسْط أصدقائه. لم يكُن قدوم العام الجديد يعنى إليه شيئًا أكثر من احتفال يُمضّيه فى صخب؛ وطالما ظن أنها السعادة التى يبغيها، إلا أنها كانت تضمحل سريعًا من حياته كالريح التى تُحدث بعض العبث، ثم تمضى من حيث جاءت! ولٰكنه قرر أن يكون هٰذا العام عامًا مختلفًا وعلامة فارقة فى طريق حياته: إنه عام البداية.”.
تحدثنا فى المقالتين السابقتين عن “قوة التسامح” و”قوة الاحتمال” فى حياة الإنسان، وكيف أنهما تحُثان حياته نحو النجاح والتقدم. إلا أننى اليوم، ونحن على مشارف عام جديد، أود أن أتحدث عن قوة أخرى، دعونى أطلق عليها: “قوة البداية”. أن كل بداية يقررها الإنسان تمُد حياته بقوة جديدة مؤثرة فى كل ما يقوم به من أعمال، وهى تحتاج إلى الاستمرار بالقوة نفسها حتى النهاية؛ فالبدايات الحقيقية هى التى تستمر وتثمر فى حياة الإنسان لتقوده إلى بدايات جديدة أعمق فى الحياة، فكما قيل: “تنبَع كل بداية جديدة من نهاية بداية أخرى”.
والشخص الذى يمكنه أن يقرر “بداية جديدة” لحياته وأهدافه أو يخُطّ طريقًا جديدًا يرسُمه لذاته هو حتمًا يملِك من القوة كثيرًا، إذ هو قادر على مصارحة ذاته بواقع يحياه ولا يُرضيه، مدركًا أن هناك احتياجًا حقيقيًّا إلى التغيير والبداية الجديدة. وتكمن مشكلة كثيرين أنهم ما يزالون لا يقوَون على مواجهة أنفسهم والاعتراف بأنهم ارتادوا طريقًا خاطئًا وعليهم أن يتخذوا قرار التغيير، مبررين أعمالهم واختياراتهم بأنها أفضل الأمور، فالاعتراف بالخطإ ـ وبصفة خاصة أمام النفس ـ يحتاج إلى قوة وشجاعة.
أيضًا من يخطو نحو “بداية جديدة” يقررها لحياته، يملِك قوة تحطم الخوف أو اليأس أو مشاعر حرمان من متع فى المستقبل، فإحدى عوائق التغيير فى حياة الإنسان، بانطلاقة نحو بداية إيجابية، تكمن فى الخوف من الفشل: فمن يقرر المحبة تحاربه أفكار أنها من شيم الضعفاء، ولم يعد العالم يفهمها الآن ! ومن يقرر الإخلاص فى عمله يجد أمامه طريقًا من العمل بكد وتعب يحرمه من راحة كاذب، والخاطئ الذى يقرر التوبة والبداية الجديدة تَثِبُ إليه أفكار أنه سيُحرم من متع الحياة ؛ لذٰلك، من يبدأ خُطواته نحو بداية جديدة هو إنسان قوى بحق.
مع بَدء عام جديد، ليضع كل إنسان نُصب عينيه ذٰلك التساؤل: هل يحتاج هٰذا العام إلى “بداية جديدة” فى أى مجال من مجالات حياته: كالعمل، والدراسة، والأسرة، وحياته الروحية، والعَلاقات الاجتماعية، ودوره نحو الوطن ؟ كُن أمينًا مع ذاتك وأنت تبحث عن إجابة ؛ إنها حياتك أنت، وأنت من يحمل مسؤوليتها أمام الله.
أتمنى لكم كل خير فى عام جديد.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى.