حدثنا في المقالة السابقة عن “العَلاقات الإنسانية” التي تجمع البشر في أسرة واحدة متناغمة؛ هٰذه الروابط الإنسانية اليومية البسيطة التي نحياها مع كل شخص نلتقيه في رحلة الحياة، معبِّرة عن عمق الإنسانية في داخل كل منا. والعَلاقات الإنسانية تحمل في طِياتها معاني الاحترام والود، كما هي تحيا بالمبادئ التي تؤكد المساواة بين البشر، وأن الآخَر إنسان يحتاج إلى العناية والاهتمام والتفهم والاحتواء.
أيضًا من مبادئ الإنسانية أن يعامل الشخص الآخرين كما يرجو منهم أن يعاملوه؛ مؤْمنـًا بقاعدة التعاملات الذهبية: [أنا أقدم لك ما أتمنى أن تقدمه لي]؛ وهي قاعدة أصلها ما قدمها السيد المسيح في تعاليمه: “كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هٰكذا.”. تُرى: كيف تكون ملامح الحياة متى عامل كل إنسان أخاه بما يود هو أن يعامله؟! أعتقد أنه حينئذ يسقط عن وجه العالم قناعه الحجريّ القبيح لتتكشف عليه نبضات الحياة التي تُلقي بشعاع سعادتها بين البشر؛ وبذٰلك يُصبح الجميع مدركين أن كل إنسان بينهم يستحق الخير كأخيه على السواء، وتختفي: الخيانة، وعدم الإخلاص، والقسوة، والظلم ـ فما لا شك فيه أن لا أحد يريد أن يُعامَل بمثل تلك الصفات المؤلمة الساحقة لجميع القيم الإنسانية؛ وينتشر السلام وتتفتح براعم الأمل أمام البشر: أعتقد أننا حينئذ سوف نرى عالمًا جديدًا.
ومن المبادئ الإنسانية أيضًا أن تكون متفهمًا لوِجهة نظر الآخر أو مقدِّرًا رؤيته إزاء الأمور، التي من الممكن أن تختلف عن رؤيتك أو تناقضها؛ وهنا أتذكر إحدى القصص التي قرأتُها ذات يوم في رسالة وصلتني ـ ومع أنها قصة للأطفال فإنها تحمل رؤية يفتقدها كثير من الكبار! تبدأ القصة على لسان بطلتها ” ذات القبعة الحمراء ” :
ذات يوم ، بينما أنا أتجول في الغابة ، إذ أرى حيوانًا صغيرًا، أسمَيته “الوحش الصغير”! كان يواجه خطرًا عظيمًا، وهو معلق بشجرة؛ فسارعتُ بإنقاذه . رق قلبي لحال ذٰلك الوحش الصغير، فاصطحبتُه إلى منزلي، حيث حمَّمتُه، وأطعمتُه، ثم هيأتُ له ملابس مخصوصة ليشعر بالدفء. ومع كل صباح جديد، كنتُ أصطحب وحشي الصغير ليمارس رياضة المشي فيكون أكثر صحة! ثم أخذتُه إلى مدرستي، وجعلتُ زملائي يلعبون معه لئلا يشعر بالملل!! ثم أعددتُ له منزلاً صغيرًا في غرفتي كي ما يجد بعض الراحة!! وذات ليلة، اشتد البرد والصقيع، فخشِيتُ أن يُصاب وحشي الصغير بالبرد فوضعتُ قبعتي فوق رأسه لتدفئه؛ وما هي إلا دقائق إلا ونظرت وجهه وقد احمر، وجسده قد ارتفعت حرارته، فأسرعت نحو النافذة لأفتحها. فإذا وحشي يخلع القبعة ويهرَب من النافذة!! فتساءلت في نفسي، وقد ملأ الحزن قلبي: أَوّاه! لماذا هرب وحشي الصغير بعد أن أنقذتُ حياته، ومنحته رعاية فائقة ؟!
ظلت الفتاة تصارعها إجابات متفرقة. إلى أن جاءت ليلة، لتجد وحشها قد عاد إلى منزله المعد بغرفتها، وأسرع بإدخال رأسه في قبعته ، ونام ! عند تلك اللحظة ابتسمت الفتاة، هامسة: أدرك وحشي في النهاية ما فعلتُه من أجله!!
وللحديث بقية …