” قال : كم تطول بنا أيام العمر ؟!! قلت : أعتقد أن الأفضل أن نفكر : كيف نحيا أيام العمر؟!”؛ كانت تلك الكلمات هى التى بدأت بها مقالتى السابقة، ولم أكُن أدرى لحظة كتابتها أننى سأعيد كتابتها فى الوقت الذى أتحدث عن ابن بار من أبنائى رحل قبل أيام قليلة! عاش فى هُدوء، وعمِل فى هدوء، ثم رحل عنا أيضًا فى هدوء؛ غادر إلى تلك الحياة الممتدة بلا نهاية إلى الأبد حيث ثلاثة أيضًا لا تنتهي: السلام، والهدوء، والفرح. إنه الابن الخادم البار “وديع سمير” : هو اسم لم يعرِفه العالم لٰكنه غالٍ وعزيز؛ ترك آثارًا لا تستطيع الأيام أن تمحوها من ذاكرة من عرَفه وقلب من تعامل معه والتقاه ؛ إنه أحد نماذج الحياة التى تقدم لنا الذين يعيشون حياة عظيمة فى بساطتها ، لتصبح رحلات حياتهم أشعة يضيء كل منها للسائر فى غربة هٰذا العالم .
إن العظمة فى طريق الحياة الذى نرتاده ـ والذى كثيرًا ما أتحدث عنه ـ هى أسلوب حياة يعيشه الإنسان، وهو حامل على عاتقه رسالة ودورًا لا بد أن يتممهما على أفضل وجه. وفى الحقيقة، لا دور كبيرًا أو صغيرًا فى الحياة، بل هى تتكامل لتقدم الإنسانية فى أعظم مشاهدها وأعمق معانيها؛ وعلى سبيل المثال، لقد عرَفت البشرية أحد مخترعيها العظام “توماس إديسون”، وكتبت عنه الأقلام، ولٰكن إنجازاته إنما حُملت على عاتق والدته العظيمة التى جعلت من ابنها نموذجًا للنجاح الباهر بعد أن كان فى نظر معلميه مثالاً للغباء والفشل!! أيضًا كثيرًا ما تحدثنا عن المعجزة “هيلين كيلر”، وقليلاً ما ذكرنا معلمتها البارعة “آن سوليڤان”. وهٰكذا فى طريق الحياة نوعان من العظماء : هٰؤلاء الذين عرَفهم العالم وخلدهم التاريخ، وأولٰئك الذين صنعوا منهم عظماء ولكن لم يدرك العالم عظمة قدراتهم.
تعجز كلماتى عن وصف ابنى “وديع” الذى سار فى طريق الحياة بوداعة كبيرة فربِح قلوب من عاملهم وعاملوه ؛ وعلى الرغم من هدوئه، فإنك فى صمته يمكنك أن تسمع دويًّا يعبّر عن محبته البالغة للجميع ! أمّا فى عمله وخدمته معنا، فقد كان أمينًا مخلصًا متفانيًا فى كل ما يقدمه، قويًّا فى أوقات الشدة، قادرًا على تحمل المسؤولية فى صبر عظيم والتزام فائق . أيضًا اتسمت شخصيته بالتواضع الشديد فى جميع معاملاته ، فعلى الرغم من امتلاكه كثير من المواهب لكنه عمل فى صمت ولم يحاول يومًا أن يفتخر بما يقوم به أو ينجزه على مدى عَقدين من الزمان وحتى يوم رحيله . إنه إحدى تلك الشخصيات التى يندر أن يجود بمثلها الزمان.
إن الحياة رحلة صوب الأبدية، ومعنى النجاح فيها أن تؤدى رسالتك بكل ما أوتيت من قوة وأمانة، مستخدمًا تلك المواهب التى وضعها الله فى شخصك؛ فتؤثر فى كل من فى تلتقيه تأثيرًا إيجابيًّا؛ وهٰكذا كانت حياتك، يا ابنى “وديع”: فإليك أكتُب كلماتى هٰذه: “لقد أديتَ دورًا عظيمًا، وعمِلت بإخلاص ومحبة. نعم، نفتقدك كثيرًا هنا فى هٰذا العالم؛ ولٰكننا نؤمن أنها ليست النهاية، بل بداية الحياة الحقة، وإننا لسوف نلتقى جميعًا يومًا ما.” .
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى