تحدثنا في المقالة السابقة عن ترْك الإنسان لأسرته: الوالدَين، أو الزوجة، أو الأبناء؛ ما يُعد ضربًا من ضُروب تنازل الإنسان عن دَوره في الحياة ومسؤوليته، إذ قد نادت الأديان بإكرام الوالدين ورعايتهما، وأنه يجب على كل إنسان الاهتمام بأسرته وأبنائه، وأن طريق الحياة لا يعرِف الراحة والسعادة مع ترك وتخلي الإنسان عن مسؤولياته، بل إن ما يصنع العظماء هو قدرتهم على تحدي ما يعترضهم من عوائق بصبر وحكمة، دون تخلٍّ عن مبادئ الحياة.
نوع آخر من الترك والتخلي نجده في الحياة: تخلي بعض البشر عن أصدقائهم وهو ما يُعد عدم إدراك لقيمة الصداقة. إن على كل مسافر في الحياة أن يعي أهمية دور الصداقة ويدرك الصديق الحقيقيّ في الحياة. وصَف أحدهم الصداقة فقال عنها: “الصداقة مثل العَلاقة بين اليد والعين: حينما تنجرح اليد تَدمَع العين، وعندما تَدمَع العين تمسحها اليد.”. إن الحياة رحلة يحمل الإنسان فيها زاده الذي يعينه على الاستمرار في الطريق، زاده من المبادئ التي يسير بمقتضاها، ومن أعمال الخير التي يحمل ثمارها، ومن رفقاء الطريق الأوفياء: ومن بينهم الأصدقاء الذين يشاركوننا الحياة بكل ما تحمل من ألم وضيق ومعاناة وفرح ورخاء، يظللون ويعضّدون في أوقات الشدة والضيق، ويشاركون في الفرح والرخاء؛ إنهم كأشجار في الحياة يُلقون بظلال محبتهم في أوقات الحر الشديد، ونسعد بثمار محبتهم في راحتنا وسلامنا. إنها لقيمة حقيقية في الحياة اسمها “الصداقة”؛ وحقًّا ما قيل فيها: “الصداقة جوهرة، زادت قيمتها كلما مضى عليها الزمن”. وأيضًا ذكر الفيلسوف اليونانيّ “أرسطو”: “الصديق هو روح واحدة تعيش في جسدين”. وهٰكذا حين يتخلى شخص عن صديق له فهو يسير في الحياة بلا ظلال تمنحه بعضًا من راحة، كما أنه نوع من التخلي عن جزء من نفسه. إن الصديق الحقيقيّ هو الذي يمسك يدك بقوة عندما تقول له: أريد أن أبقى وحيدًا! وهو الذي يقترب إليك في حين يبتعد عنك الجميع.
أيضًا ترك الصديق هو تخلٍّ عن وفيّ وُهب لك ليساعدك على النجاح في الحياة بأمانته وإخلاصه لك، وبمحبته الخالصة الوفية، وبالنصيحة الغالية التي لن تجدها بيسر. إن الصديق الحقيقيّ هو أول من يكاشفك بما يراه فيك من عُيوب، لا لكي ينال منك أو ينتفع، بل إنها محبته الشديدة لك التي تحُثه على أن تخلع عن نفسك كل عيب أو نقص، ساندًا إياك حتى تجتازه. إنه أول من يشجعك في كل ما هو لخيرك وفائدتك، فنجاحك يُعد نجاحًا له، وسعادتك هي سعادته، وألمك يؤلمه. لذٰلك لا تتخلَّ عن صديق حقيقيّ يحبك، فخَسارته قد تُفقدك الرؤية الحقيقية في كثير من أمور الحياة.