No Result
View All Result
تحدثنا فى المقالة السابقة عن عدد من حكام «مِصر» فى أثناء حكم الخليفة «هارون الرشيد» منذ عام ١٧٨هـ (٧٩٤م) حتى عام ١٨٣هـ (٧٩٩م). وفى ذٰلك العام، تنيح البابا «يوحنا الرابع» الثامن والأربعون فى بطاركة الكرسى الإسكندرى، واختير «البابا مَرقس الثانى» من بعده الذى ذكرنا أنه حاول الهرب من تلك المسؤولية لكنهم قيدوه وأرسلوه إلى «الإسكندرية» ليصبح البابا التاسع والأربعين فى بطاركة «الإسكندرية». وقد سِيم بطريركًا قُبيل أيام «الصوم الكبير» الذى أمضاه فى الدير، وكان عند عودته من الدير بعد عيد القيامة أنه حضر إلى فُسطاط «مِصر» ليسلِّم على الوالى، وقد صحِبه «أنبا ميخائيل» وبقية الأساقفة المجتمعين معه؛ فلما وصلوا إلى دار الوالى، استأذنوا فى الدخول فسمح لهم الوالى. ويذكر المؤرخ الكنسىّ «ساويرُس ابن المقفع»: «فلما دخل وسلَّم على الوالى، التقاه ودعا له! حتى تعجب الوالى من حلاوة لفظه وكلامه الممتلئ نعمة، ومن النعمة التى هو مشتمل بها؛ فجعل الله فى قلبه رحمة، وأمره أن يجلس، وساواه فى المخاطبة، وقال له: قوِّ مَنبَِتك وشُد أزرك! فإنى أقضى جميع حوائجك، وكل ما تريده منى، أُبلغك إياه! فقال له البطرك: إن الله يرفع سلطانك، ويسعد أيامك، ويوفق رعيتك ببقاك». وهكذا كان لقاء البابا مع الوالى لقاء ود ومحبة عميقة تأصلت فى نفس كل منهما. وفكر البابا مَرقس الثانى ومعه الأساقفة فى عمارة الكنائس التى هُدّمت قبل ذلك الوقت. فعاد البابا إلى لقاء الوالى فى اليوم التالى، فاستقبله بكل إجلال وإكرام وكرر وعده بأنه سينفّذ له ما يطلب من أجل تلك المحبة التى تولدت فى قلبه تجاهه. فأجابه البابا مَرقس أنه يرغب فى بناء الكنائس التى هُدّمت، من أجل الصلاة فيها والدعوة لأجل البلاد والحاكم؛ فما كان من الوالى إلا أن استجاب لطلبه وأمر بتعمير وإعادة بناء جميع الكنائس التى هُدّمت. وبذلك تحققت كلمات الملاك، الذى كان قد ظهر إلى «البابا يوحنا الرابع» عندما كان يصلى ويطلب إلى الله أن يشدده فى إعادة الكنائس التى هُدّمت، أن الكنائس سيبنيها البابا الذى يأتى من بعده.
عاد البابا مَرقس إلى الإسكندرية واهتم باتحاد «كنيسة الإسكندرية» مع «كنيسة أنطاكية»، فكتب إلى بطريركها يعلمه بخبر نياحة البابا يوحنا الرابع، وكيفية تجليسه على الكرسى المَرقسى، وحدَّثه عن المخالفين فى الإيمان والعقيدة واتفاق الكرسيِّين الإسكندرى والأنطاكى فى الإيمان الواحد. وأرسل الرسالة مع أسقفين كان أحدهما «أنبا مَرقس» أسقف الفَرَما، وقد رافقهما «الشماس جرجه» قَيِّم بِيعة الإسكندرية. وعندما قرأ البطريرك كرياكوس الرسالة حزِن على نياحة البابا يوحنا الرابع، وفرح بجلوس البابا مَرقس الثانى، وقرأ الرسالة على الشعب الذى فرح برسالة بابا الإسكندرية، وقد أشاد جميع أفراده بالآباء الأساقفة المِصريِّين لحُسن منظرهم واتضاعهم وفصاحتهم وكلماتهم الروحانية الطيبة. ثم عاد الآباء الأساقفة بعد أن ودعهم البطريرك كرياكوس بكرامة عظيمة مع كتابات من قداسته إلى البابا مَرقس الثانى تؤكد وَحدة الكرسيَّين الأصيلة الضاربة فى التاريخ، ففرِح الشعب المِصرى فرحًا عظيمًا.
وقد كان فى أيام هذا الأب جماعة تسمَّى بار سنوفه، ويُدعون أعضاؤها أيضًا «مَن ليس لهم رأس»، وقد عاشوا زمانًا طويلاً وهم مبتعدون عن الكنيسة؛ فحزن عليهم البابا مَرقس وصلى إلى الله طالبًا خلاصهم وهدايتهم، فقبِل الله صلاته فإذا رئيسهم ـ ويُدعى إبراهيم ـ وأبوه ـ وكانوا يعتبرونه أسقفًا عليهم ـ قد حضرا إلى البابا مَرقس وأعلنا توبتهما، وقالا: «مبارَكٌ الله الذى أنار علينا بتعاليم قُدسك التى وصلت إلى مسامعنا، ورَدّنا من الضلالة التى غشِيت علينا طول هذه المدة!»؛ وطلبا أن يكونا مع رعيته، ففرِح البابا مَرقس وضمهما إلى رعيته بعد أن تأكد لديه صدقهما فى التوبة والعودة. وبعد عودتهما، رأى أتباعهما ما كان منهما، فكتبوا إلى البطريرك طالبين إليه أن يأتى إليهم ويكرِّس كنائسهم ويضمهم إلى رعيته؛ ففرِح البابا مَرقس فرحًا عظيمًا، وترك جميع الأمور مسرعًا إلى الفسطاط ليضم إليه أبناءه التائبين العائدين إلى الكنيسة.
ولم يهتم البابا مَرقس الثانى بأمور كرسى «مار مَرقس» فقط بل وصله أمر أحد مطارنة أنطاكية أنه ابتعد عن الإيمان الصحيح فحزِن جدًّا، ولأجل اهتمامه العظيم بالاتحاد مع كنيسة أنطاكية، كتب إلى الأب البطريرك كرياكوس عن حزنه لضلالة ذلك المطران، طالبًا إليه أن يهتم بذلك الابن الضال، وأن يطلبه بكل محبة وأبوة. وعند وصول تلك الرسائل لبطريرك أنطاكية، تعجب من اهتمام القديس، وحاول جاهدًا استعادة ذلك المطران إلى الإيمان الصحيح فلم يتمكن، إذ كان الأمر قد انتشر بين البعض ودعَوا أنفسهم «الإبراهيميِّين» وانفصلوا عن الكنيسة الأرثوذكسية.
وكان من اهتمام ذلك الأب البطريرك فى بناء الكنائس، أن طلب إليه شعب الإسكندرية بناء كنيسة على اسم «السيد المخلص» فى وسط المدينة، وكان يقوم فى وقت مبكر جدًّا مع صياح الديك ليتابع بناء الكنيسة مثله مثل أحد المهندسين العاملين بها، وينظر فى الاحتياجات ليدبرها! ويذكر بعض المؤرخين أنه كان يشارك فى البناء بيديه، حتى أكمل بناء الكنيسة!
وقد أقام البابا البطريرك قَيِّمًا على الخدمة البطريركية، لكنه كان شريرًا يسعى بالوِشاية عن كل أحد من أجل أن يسلمه البابا جميع أمور الكنيسة! وفى أحد الأيام، حضر إلى البابا مَرقس وأخذ يتكلم بشر عن أحد الكتاب للبابا البطريرك؛ فحزِن البابا إذ إن ذلك الشخص لا يعتبر ولا يتوقف بكلام الحسد والشر عن الآخرين، فقال له: «الآن قد عسُر داؤك، الآن قد جربناك فى كل شىء لخلاص نفسك وأنت لا تكف بل تزيد. والآن، فظلمك يكون على هامتك (رأسك)…». ولكن الرجل لم يرتدع بل أصر على كلامه فمات فى تلك اللحظة ميتة بشعة!
وفى أيام ذلك الأب البطريرك، هجم جراد كثيف على مدينة الإسكندرية والبحيرة فأتلف جميع زرع الأرض؛ فحزن الأب البابا جدًّا لِما أصاب البلاد، وأمر الشعب أن يخرجوا إلى مكان الجراد ويرفعوا الصلوات إلى الله طالبين الرحمة. فحدث كما حدث فى أيام «موسى النبى» وطار الجراد ونزل فى لُجج البحر ومات جميعه. ويُذكر عن هذا الأب البطريرك أن الله وهبه عمل الآيات والمعجزات فكان يشفى كثيرًا من الأمراض. وكانت أيامه ممتلئة سلامًا وهدوءًا واطمئنانًا، إلا أن عدُو الخير ما لبِث أن بدأ فى شن الفتن فى مِصر حتى إنها امتلأت بالحَُزَْن!! وكان ذلك الأب يرفع صلواته إلى الله بدُموع كثيرة من أجل عودة الهدوء والسلام؛ وفى أيامه مات الخليفة هارون الرشيد وحكم ابنه مُحمد الأمين من بعده. إلا أن خلافًا شديدًا حدث بين ابنَى هارون الرشيد فتأثرت مِصر بدرجة كبيرة وقامت الثورات، وقل الأمن فى البلاد ـ وسنأتى لتلك الأحداث بالتفصيل فى موضعها. وحدث أن أتى إلى الإسكندرية قوم ومعهم سبايا من الأندلس يبيعونهم عبيدًا فيها؛ فحزن البابا عليهم جدًّا فكان يشترى كثيرين وصل عددهم إلى ستة آلاف نفس، ثم كان يحررهم من العُبودية ويخيرهم بين العودة إلى بلادهم وبين البقاء معه كأبناء له. وقد انتشرت أخبار رحمته بين كثير من المُلوك والشعوب فتعاظم فى أعينهم. إلا أن ذلك حرك ضده الأشرار فحدث.. وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
No Result
View All Result