No Result
View All Result
بدأ”صوم رمضان” وبعد أيام قليلة يبدأ “صَوم الرسُْل” ففي هٰذا العام أيضًا يصوم المِصريُّون معًا: “المسلمون” يصومون “صوم رمضان”، و”المَسيحيُّون” يصومون “صَوم الرسُْل”؛ وهٰكذا يقدم المِصريُّون عملاً روحيًّا عميقًا يعبّرون فيه عن محبتهم لله وعن محبتهم للبشر جميعًا، فكل عمل روحيّ صادق إنما هو يقترب بفكر الإنسان وسُلوكه نحو عمق إنسانية البشر وقمم الفضائل والقيم في حياتهم. نطلب إلى الله ـ تبارك اسمه ـ أن يقبل الأصوام والصلوات والابتهالات التي تقدَّم كأعمال محبة ورغبة عميقة في الاقتراب والتقرب إلى شخصه المبارك، متمنيًا كل خير وسلام وبركة لـ”مِصر” والمِصريِّين جميعًا.
في “الصوم” يرتبط الإنسان أكثر بالله من خلال الصلوات التي يرفعها بقلب صادق محب تائب عن المعاصي؛ فهو يخصص في أيام الصوم بصفة خاصة بعضًا من الوقت ـ الذي يمضي من دون عودة سواء لمسؤولياته أو انشغالاته ـ ليفحص ذاته وحياته ويقيّم ما مضى من أيام عمره؛ وفي تلك الأوقات، كثيرًا ما يكتشف الإنسان أنه في حاجة إلى استعادة بعض القيم والمبادئ التي من المحتمل أن تكون قد غابت أو اهتزت قليلاً في حياته. أيضًا يقيّم عَلاقاته بمن حوله من البشر: سواء على المستوى الأسريّ، أو العمل، أو الأقرباء، أو الأصدقاء، أو الجيران، أو المعارف؛ ويقدم لهم مزيدًا من الاهتمام والمساعدة؛ إن مشغوليات الحياة قد ألقت بظلالها على حياة الجميع، بدرجات متفاوتة، فتباعدوا حتى بدَوا كأن كل منهم يعيش منعزلاً في جزيرة، أو بات لا يعرف عن الآخرين كثيرًا أو قليلا!
الصوم والصلاة
يرتبط “الصوم” كثيرًا بالصلاة ورفع القلب إلى الله. وكما نعرف فإن كلمة “صلاة” تأتي من كلمة “صِلة”؛ لذٰلك فالإنسان حين يصلي فإنه إنما يقِيم صلة بالله ـ تبارك اسمه ـ يرتفع فيها عقله وقلبه عن أمور العالم، مقتربًا إلى الله نبع الحياة، وهٰكذا تنعكس عليه صفات الخير والمحبة والرحمة.
من خلال الصلاة تمتلئ حياة الإنسان بالهُدوء والسلام في وسط هٰذا العالم المضطرب الممتلئ بالرياح والعواصف، إذ يُدرك أنه محفوظ في يد أمينة فيبتعد الخوف والقلق عن قلبه، موقنًا أن جميع أمور الكون هي بيد الله ولا أمر يحدث تحت السماء دون سماح منه. وعندما يعرِف الإنسان السلام والطمأنينة في حياته، يكون أكثر عملاً وإنتاجًا واحتمالاً للآخرين: لا يخشى أمرًا، أو ظرفًا، أو حدثًا؛ فعناية الله ورعايته تتقدمه في كل موضع؛ ومن ثَم عندما تلتقيه الهموم أو المشكلات تجده يلجأ إلى الله فيجد راحة وسكينة، وكما قيل: “إذا ضاقت بك الدنيا، فلا تقُل: يا رب، عندي هم كبير؛ وإنما قُل: يا همّ، لي رب كبير.”!
أيضًا في الصلاة يراجع الإنسان حياته فيشكر الله عن خير التقاه في يومه، وما أكثر ما يقدمه الله لنا! يقول أحدهم: إن تأملنا في أحداث يومنا، فحتمًا نرى حفظ الله لنا ولعائلاتنا، ولعرفنا أن الله يهب لنا كل خير وإن لم نُدركه في وقته؛ وهنا أتذكر قصة أحد الوُزراء مع ملك كان لا يُدرك حكمة الله من الأحداث، ولٰكنه كان يحب وزيره ويثق به ثقة شديدة حتى إنه كان لا يدعه يفارقه أبدًا. وفي أحد الأيام، خرج الملك في إحدى رِحْلات الصيد الذي يهوى ممارسته جدًّا، مصطحبًا وزيره. وفي أثناء الرحلة، أفلت السهم من الملك فجرح أُصبُعه، فقال له وزيره: لعله خير! إلا أن الجُرح قد تفاقم حتى حدث تسمم في الأُصبَع واضطر الملك إلى بتره، فلم يجد كلامًا من وزيره سوى: لعله خير!! فيحنئذ اندهش الملك جدًّا من كلمات وزيره، بل اعتراه غضب شديد وقال: أتتمنى أن يُقطع إصبَِعى، وتقول: لعله خير؟!! ثم أمر حراسه بالقبض على الوزير وإيداعه السجن؛ فعندئذ أجاب الوزير: لعله خير!!
مرت الأيام، وما يزال الوزير في سَِجنه، والملك يمارس حياته وهواية الصيد فيخرج وحيدًا. وذات يوم هاجمت الملك إحدى القبائل وأسَرَته وقدمته إلى زعيمها الذي أراد أن يقدمه قربانًا لآلهته!! وبينما هم يُعدونه للموت، لاحظ الزعيم إِصبَعه المبتور فرفض تقديمه للآلهة وأمر رجاله بأن يُعيدوه إلى مكانه؛ وفي تلك اللحظة أدرك الملك تدابير الله، وأنه ليس كل أمر يبدو للإنسان شرًّا هو بالحقيقة شر، فقد أنقذه أَصبَعه المبتور من الموت. وصل الملك إلى قصره، وأمر باستحضار الوزير من سجنه، وقص عليه ما حدث، واختتم حديثه إليه: لقد كنتَ على صواب، أيها الوزير؛ ولٰكن، لِمَ قُلتَ: “لعله خير”، عندما أدخلتك السجن؟ أجاب الوزير: لو لم يسمح الله بذٰلك، لكنتُ أنا القربان الآن، أيها الملك! فأَمسَى ذٰلك الأمر خيرًا.
الصوم والرحمة
إن كان أحد جوانب الصوم هو الارتباط بالله من خلال الصلاة، فإن الجانب الآخر هو ارتباطه بالآخرين من خلال مشاعر الرحمة والود. فالصوم يجعل الإنسان يشعر بمشاعر الاحتياج إلى الطعام والشراب وهو ما يَزيد من إحساسه بالآخرين، ومن ثَم تملأ الرحمة قلبه نحو كل إنسان، شاعرًا بالضعيف وبالمتعَب وبالمحتاج وبكل من ليس لديه ما يسُد عوزه. وهٰكذا تتفجر ينابيع الرحمة بين البشر جميعًا فيستعيد البشر تلك المشاعر الإنسانية التي تكاد تندثر خلف زوابع الحياة وصراعات العالم؛ فنرى ثمار الحُنو والعطف والعطاء تمنح حياة البشر بهجةً، معلِنةً أن الإنسانية ما تزال بخير. والرحمة لا تتوقف عند حد العطاء الماديّ للمحتاجين بل تتخطى ذٰلك إلى الجميع، حاملةً في طِياتها مشاعر الرأفة والرفق واللين التي يبثُّها الإنسان نحو كل من يلقاه، بل نجد الرحوم تمتد مشاعر الرحمة لديه إلى الكائنات غير العاقلة من الحيوانات.
ومن مظاهر الرحمة أن نجد الإنسان لا يحكم حكمًا قاسيًا على الآخَر، ولا يُقدِم على جَرح مشاعره الإنسانية أو التقليل من شأنه. أيضًا الرحوم لا ينظر في الخطإ وحسْب، بل يقدّر أن الجميع بشر تكتنفهم جوانب من الضعف في حياتهم فيساعد بمحبة على قدر طاقته كل من يلقاه في رحلة الحياة لتخطي ضعفاته أو تعديل بعضها. والإنسان الرحوم يُسرع بتراحمه نحو كل إنسان حتى من يبدو أنه لا يستحق! تقول إحدى القصص إن سيدة وقفت أمام الإمبراطور “نابُليون بونابرت” كي تطلب إليه أن يرحم ابنها الذي فعل ما يستحق أشد العقوبات. وجرى هٰذا الحوار: قالت المرأة: قد علمتُ أنك إنسان رحوم، فأرجو أن تعفو عن ابني هٰذه المرة. فأجابها الإمبراطور: إني أحب الرحمة، وقد صفحتُ عنه المرة السابقة. أسرعت المرأة تقول: أطلب إليك أن تصفح عنه هٰذه المرة أيضًا. فما كان من “نابُليون” إلا أن قال: إنه لا يستحق الرحمة، لقد استهان برحمتي وأخطأ ثانيةً. لم تُثني كلماته عزيمة الأم فأخذت تسترحمه: أنا أعلم أنه لا يستحق الرحمة، لٰكنك أنت رحوم. فسألها الإمبراطور قائلاً: ولٰكن كيف أقدم الرحمة لمن لا يستحقها؟! فعقَّبت الأم: إن قُدِّمت الرحمة لمن يستحقها لا تُحسب رحمة، لٰكن الرحمة الحقَّة هي التي تُقدمها لمن لا يستحقها! وحينئذ صمت “نابُليون”، ثم قال: لقد أدركتُ الآن، ما هي الرحمة؛ لذا قررتُ العفو عنه!
إن “الصوم” يجذب الإنسان إلى عَلاقة قوية روحية قوية بالله، ويزرع المشاعر الإنسانية والرحمة في قلوب البشر. و … وعن “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأُُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ
No Result
View All Result