أهنئكم جميعًا بعيد القيامة الذى يحتفل به أقباط «مِصر» اليوم؛ والقيامة هى إحدى معجزات الله ـ تبارك اسمه ـ إذ فيها تعود روح كل إنسان بارّة أو شريرة إلى جسدها الذى فارقته بعد الموت، لتقوم الأجساد فى طبيعة جديدة ممجَّدة، أمام الله الديان كى ما تنال حياة أبدية أو هلاكًا أبديًّا بحسب أعمالها؛ وبذٰلك تكون القيامة هى الباب الذى يدخل منه الأبرار إلى السعادة والحياة الأبدية، وفى الوقت نفسه هى مدخل للأشرار نحو الدينونة والهلاك الأبديَّين.
وفى تعاليم السيد المسيح عن قيامة الأموات، نرى حديثه حين حاوره قوم من الصَّدُّوقيين ـ طائفة لا تؤمن بالقيامة من الأموات ولا بوجود الملائكة، قائلاً: «وأمّا من جهة قيامة الأموات، أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب؟ ليس الله إله أموات بل إله أحياء»؛ كما أنه طالما ربط القيامة العامة بالدينونة النهائية: «لا تتعجبوا من هذا، فإنه تأتى ساعة فيها يسمع جميع الذين فى القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عمِلوا السيئات إلى قيامة الدينونة»؛ هٰكذا ينال كل إنسان فى القيامة الحكم العادل بحسب ما فعله فى حياته.
وبذٰلك يضحى انتظار القيامة والاستعداد لها إما أملاً أو إنذارًا: أملاً لكل إنسان صالح أمين فى الحياة بأن يستمر بتقديم الخير لكل إنسان، وإنذارًا إلى كل شرير أن يقدم توبة ويبدل من حياته. وهنا أتذكر كلمات ﻛﺘﺒﻬﺎ أحد الأشخاص قبل موته بعُنوان: «ﻧﺼﻴﺤﺔ ﻣﻦ ميت»؛ يقول:
ﺗﺄﻣﻞ ﺟيدًا ما ﻛﺘﺒﺘُﻪ عند ﻣوتى. ﻟﻦ أﻗﻠﻖ، ﻭﻟن أهتم بجسدى البالى؛ ﻓﻬﻨﺎﻙ أﻧﺎﺱ سيقومون بما يلزم: سيجردوننى ﻣﻦ ﻣﻼﺑسى، ثم ﻳﻐﺴّﻠﻮﻧﻨﻲ، ويكفنوننى؛ بعدئذ سوف يخرجوننى ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻲ ويذهبون بى إلى مسكنى الجديد: أعنى ﺍﻟﻘﺒﺮ. ﺳﻴﺄتى كثيرون لتشييعى فى ﺟﻨﺎﺯﺗﻲ، بل سيُلغى كثير منهم ﺃﻋﻤﺎﻟﻪ ومواعيده ﻷﺟﻞ ﺩﻓﻨﻲ، ومنهم من لم يفكر ﻓﻲ إسدائى النصيحة ﻳﻮﻣًﺎ! أمّا عن ﺃﺷﻴﺎئى كمفاتيحى وﻛﺘﺒﻲ وﺣﻘﻴﺒﺘﻲ وأحذيتى وﻣﻼﺑسى وغيرها، فسوف يُتخلص منها، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﺃﻫلى موفقين فسوف يتصدقون ﺑﻬﺎ. تيقنوا أن الدنيا لن ﺗﺤﺰﻥ علىّ، ﻭلن تتوقف ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟم: ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩ ﺳوف يستمر، ووظيفتى ﺳﻴﺄﺗﻲ شخص آخر ليؤديها، فى حين ستذهب ﺃﻣﻮﺍلى إلى وارثيها وأنا من سأحاسَب عليها أمام الله: القليل منها أو الكثير!! بموتى ستسقط أشياء كثيرة أولها «ﺍﺳمى»: فحال موتى سيقولون عنى: ﺃﻳﻦ «ﺍﻟﺠﺜﺔ»؟!، ﻭﻟﻦ ينادونى بذٰلك الاسم الذى اعتدت سماعه، ومتى أرادوا الصلاة علىّ سيخبرون الآخرين بموعد «ﺍﻟﺠﻨﺎﺯﺓ» ﻭﻟﻦﻳﻨﺎﺩﻭنى ﺑﺎﺳﻤﻲ، وعندما يشرعون فى دفنى سيقولون: أحضروا «المرحوم»، ولن يذكروا ﺍﺳمى كما اعتدت، بل يصير منذ ذٰلك اليوم هو لقبى؛ لذٰلك ﻟﻦ أغتر أو أتفاخر بنسبى، ﻭﻻ أسرتى؛ كما لن أغتر بمنصب اعتلَيته أو بشهرة تتبعتْ ما أقوم به، فحقًّا ما أقل قيمة هذه الدنيا! ﻭﻣﺎ أعظم ما نحن مقبلون عليه!.
ثم يأخذنا فى حديث إلى الأحياء من البشر، قائلًا: «ﻓﻴﺎ ﻣﻦ ﻻ ﺗﺰﺍﻝ تحيا ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ: ﺍﻋﻠﻢ أﻥ ﺍﻟﺤﺰﻥ ﻋﻠﻴﻚ ﺳﻴﻜﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻧﻮﺍﻉ: ﺍﻟﺬﻳﻦﻳﻌﺮﻓﻮﻧﻚ ﺳﻄﺤﻴًّﺎ ﺳﻴﻘﻮﻟﻮﻥ: ﻣِﺴﻜﻴﻦ، ﺃﺻﺪﻗﺎﺅﻙ ﺳﻴﺤﺰﻧﻮﻥ ﺳﺎﻋﺎﺕ ﺃﻭ أيامًا ﺛﻢ ﻳﻌﻮﺩﻭﻥ ﺇﻟﻰ حديثهم بل ضحكاتهم، ﺍﻟﺤﺰﻥ ﺍﻟﻌﻤﻴﻖ سيكون ﻓﻲ منزلك إذ تحزن أسرتك بعض الوقت طال أو قصر، إلا أنك تصير فى أرشيف الذكريات آخر الأمر. لقد ﺍﻧﺘﻬﺖ ﻗﺼﺘﻚ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ولكن ﺑﺪﺃﺕ القصة الحقيقية، ﻭﺑﺪﺃﺕ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ: الحياة الأبدية. ﻟﻘﺪ ﺯﺍﻝ ﻋﻨﻚ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ، وﺍﻟﻤﺎﻝ، وﺍﻟﺼﺤﺔ، والقصور، والزوجة، والأبناء، ﻭﻟﻢ يتبقَّ معك إلا ما قمت به من أعمال فى أثناء رحلة حياتك على الأرض. سؤالى إليك: ﻣﺎﺫﺍ ﺃﻋﺪﺩﺕ لآخرتك فى حياتك؟! إنها الحقيقة الوحيدة التى تحتاج إلى وقفة وتأمل يتبعهما سلوك؛ ﻟﺬٰﻟﻚ ﺍﺣرِﺹ ﻋﻠﻰ: ﻣﺤﺒﺘﻚ ﻟﻠﻪ ﻭالناس، وﺻﻼﺗﻚ ﻭﻋَﻼﻗﺘﻚ ﺍﻟﺤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻠﻪ، وﺻﺪﻗﺘﻚ التى ﻳﺠﺐ أﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺴﺮًّا، وأعمالك الصالحة، وتوبتك ﺍﻟﻤﺴﺘﻤﺮﺓ عن جميع ما تقترفه من ذنوب.
إن القيامة هى دعوة إلى كل إنسان أن يتمهل قليلاً فى الحياة ليفكر فيما يعده ليومه: وأعنى به حياته على الأرض، وما يعده لغده: أيْ حياته الحقيقية التى تعقب عبور جسر الموت. أمّا محاولة الهرب منها بالانشغال أو التناسى، فلن تؤدى إلا إلى مأساة لا تنتهى، فى حين رفْض وجود قيامة وحياة خالدة لا يعنى أنها ليست حقيقية. أتذكر ما قرأته فى إحدى أكبر الدراسات الطبية التى استمرت أربع سنوات وأجريت على عدد كبير من المرضى مروا بخبرة السكتة القلبية، وكانوا ��لفَى مريض تقريبًا فى خمسة عشَر مستشفًى فى المملكة المتحدة والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية: حيث وجد الباحثون أن نسبة تقارب 40% من الأشخاص الناجين، بعد نجاح عملية إنعاش قلوبهم وعودة النبض إليهم، قد أخذوا يقصون بعض الأحداث التى شاهدوها أو شعروا بها أثناء الفترة التى فيها يفترض أنهم موتى. ومن المعلوم طبيًّا أن الدماغ يتوقف عن عمله بعد مرور 20-30 ثانية بعد توقف القلب، إلا أن إحدى الحالات التى نجح الأطباء فى إنعاشها بعد توقف القلب قرابة ثلاث دقائق استطاعت وصف ما قام به الأطباء ووصف أصوات المعَدات التى وصلت إلى سمعها، وتحدث بعضهم عن شعور اجتاحهم من السلام، فى حين عبّر بعض آخر عن مشاعر مناقضة من الخوف والفزع أو الإحساس بالغرق، ومنهم من ذكروا أنهم رأَوا ضوءًا يسطَع كأنه شروق للشمس.
فى تقرير آخر للجريدة البريطانية »ديلى ميل«، قدمت الجريدة رصدًا للأطباء فى كندا عن حالات لوحظ فيها استمرار نشاط المخ بعد الوفاة وتوقف القلب عن العمل تمامًا، برصدهم موجات إلكترونية تماثل الموجات التى تصدر من الإنسان فى أثناء النوم، إلى مدة بلغت عشْر دقائق؛ فتوصلوا إلى نتيجة علميّة ألقت الضوء على وجود حياة ثانية بعد الموت يدخل فيها الإنسان وأن الموت ليس هو النهاية.
أمّا تجرِبة د. إيبن ألكسندر ـ وهو طبيب جراح، ولا يؤمن بوجود الروح أو الحياة بعد الموت ـ فهى تُعد أكثر التجارِب إثارةً فى هذا الموضوع. عاش د. ألكسندر حالة من الغيبوبة استمرت سبعة أيام نتيجة إصابته بالتهاب سحايا حادّ، انتهت بما يشبه المعجزة ليعود بعدها إلى الحياة، ويروى فى كتابه «برهان السماء» تجرِبته التى خاضها عن «حلة حياة بعد الموت» من خلال زيارته بعض الأماكن السمائية، وكذٰلك فند بوصفه طبيبًا المحاولات العلمية لتفسير ما مر به؛ ومن أجمل ما كتب: «إن تجرِبة الحياة بعد الموت حقيقية، وواسعة إلى درجة أن تجرِبة الحياة الإنسانية على الأرض تبدو كحُلم بالمقارنة معها»!! و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى