كان حديث المقالة السابقة عن اللقاء بين “القديس البابا كيرِلُّس السادس” والراهب “أنطونيوس السريانيّ”، عندما اختاره البابا بعد شهر واحد من سيامته ليصبح سكْرتيرًا له، ثم عودة “الراهب أنطونيوس السريانيّ” إلى دَيره في السنة نفسها حبًّا في حياة الوَحدة. وظلت الأمور هٰكذا حتى سنة ١٩٦٢م، حين اختار القديس “البابا كيرِلُّس السادس” الراهب “أنطونيوس السريانيّ” أول أسقف عامّ للتعليم والمعاهد الدينية والتربية الكنسية باسم “أنبا شنوده”.
وحين نقرأ صفحات التاريخ التي سجلت ومضات من حياة القديس “البابا كيرِلُّس”، يشُد انتباهنا ما ميز شخصه، وما أضفاه من عمق في عَلاقة الإنسان بالله. فقد اتسمت حياة “البابا كيرِلُّس السادس” بكثير من الخصال الروحية، أولها محبته الشديدة لله.
لقد أحب الشاب “عازر” الله محبة فائقة جعلته يقرر ترك العالم ليحيا حياة زاهدة، يكون الله فيها هو الأول والكل في الكل، يلتصق به في صلوات لا تنقطع، وخدمة لا تتوقف. وما إن لبث في حياته الجديدة، حتى قرر أن يتوحد بمغارة بعيدة منفردًا بالله، في عَلاقة روحية عميقة، وصداقة مع السمائيين والقديسين لا نظير لها!! لقد ملكت حياة الوَحدة على قلبه إذ تمتع بفرح الروحيات والسلام اللذين يفوقان كل عقل، حتى إنه كان دائم القول: “لا شيء تحت السماء يقدر أن يكدرني أو يزعجني؛ لأني مُحْتَمٍ فى ذٰلك الحصن الحصين، داخل الملجإِ الأمين، مطمئن في أحضان المراحم، حائز على ينبوع التعزية.”؛ لذٰلك حين ترك الدَّير وعاش في مِنطقة “مصر القديمة”، سكن في طاحونة مهجورة من طواحين الهواء، غير هائب أيّ أخطار قد يتعرض لها، إذ يشتمل بتعزيات السماء، ويتسربل بحماية الله. وعلى الرغم من المحاربات الشديدة التي تعرض لها من الشيطان، فإن الله سانده وحفِظه في جميع التجارِب. ويذكر الراهب “القمص رافائيل آڤا مينا”، أن من الحروب التي تعرض لها الراهب “مينا البَرَموسيّ المتوحد” محاولة مفتش الآثار طرده من الطاحونة دون مبرر! متحدثًا إليه بغِلظة!! إلا أن زوجة المفتش رأت في حُلم أن “أبونا مينا” غاضب؛ فما كان إلا أن اتجهت هي وزوجها إلى الطاحونة ليلتقيا الراهب المتوحد، معبرين عن أسفهما وندمهما.
وفي محبته لله كان يقيم صلوات القداس يوميًّا، مدركًا أهميتها، حتى إنه لُقب “رجل الصلاة”. وحين أراد بعضٌ أن يُدركوا سر محبته لإقامة القداسات يوميًّا، قال: “إذا كان القِسيس موجود، والدقيق موجود، والمذبح موجود، فلما ما نصليش، نقول إيه لربنا؟!”. لقد كان اهتمامه الأول دائمًا هو الله؛ وهٰكذا ظل طوال حياته، واضعًا الله نُصب عينيه. وعن القداس قال: “اُطلب في وقت القداس بلجاجة كل ما أنت محتاج إليه، لأنه هٰذا هو الوقت المقبول. هٰذا الوقت الذي فيه تُفتح أبواب السماء …”. وقد شهِد عنه جميع من عرَفوه بمحبته الشديدة للصلاة؛ فقد ذكر مثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث”، في كلمته التي ألقاها في الذكرى الأولى لنياحة “البابا كيرِلُّس السادس”: “أمضى حوالي ٤٠ عامًا في خدمة الكهنوت. وفي تلك المدة، حرَص كل يوم أن يقيم القداس الإلٰهيّ. لقد كان يحلو له أن يصلي جميع الصلوات، ويترنم بألحان التسبحة، ويصلي المزامير، ولا يوجد في تاريخ الكنيسة كله إنسان مثل «البابا كيرِلُّس»، استطاع أن يُقِيم مثل كل هٰذه القداسات. ولقد حاولت أن أُحصي عدد القداسات التي أقامها في حياته، فوجدت أنه قد صلى ما يزيد على ١٢ ألف قداس (باستثناء الخمس السنوات الأخيرة التي مرِض فيها). وهٰذا أمر لم يحدث في تاريخ أيّ بابا من باباوات الإسكندرية، أو العالم، أو الرهبان. وكان يجد تعزية في صلوات القداس، ولذة روحية في صلوات التسبحة. وكل الذين يعرِفونه، شاهدوه ينزل من المقر البابويّ في الثالثة صباحًا، ويصلي صلاة نصف الليل، ويرتل التسبحة بنفسه مع المرتلين في الكنيسة، ثم يصلي القداس، ويخرج في السادسة صباحًا قبل أن يصحو الناس … كان عجيبًا في صلواته، وكانت الصلوات تتبعه في كل مكان.”. و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ