بدأ الحديث فى المقالة السابقة عن «البابا غبريال الثانى»، السبعين فى بطاركة الكرسى المَرقسى الإسكندرى، الذى كانت سيامته سنة 1131م، فى خلافة «الحافظ لدين الله».
وفى أيام هذا الأب البطريرك، نشبت حرب شديدة بين الجند والسودانيِّين بـ«أطفيح» قُتل فيها بشر كثيرون، وألقى الأمير «حسن»، ابن الخليفة الحافظ، القبض على «البابا غبريال الثانى» وسجنه حتى جمع كُتاب الديوان والتجار أموالاً لإنقاذه، فلم يُطلق من سجنه حتى دُفع للأمير ألف دينار.
وشهدت أيام هذا الأب البطريرك تولى «رِضوان بن وَلَخْشِى» وَزارة «مِصر»، فعانى منه الأقباط كثيرًا، وكانت أيامه غلاءً شديدًا حتى إن الناس لم يجدوا لهم قوتًا، وباع هو الأرز الأحمر والفول المسود والحبوب المسوسة والقمح، وقمحًا سماه المصريون «الدنوكى» أى المتعفن لشدة قِدمه!!!.
ومن عظم بلايا ذلك الزمان أن امتنع نهر النيل عن ارتفاعه حتى تأثرت البلاد وجفت الأرض، فيذكر المؤرخ الأسقف «ساويرس بن المقفع»: «وكان قد جرى مثل ذلك فى سنة أربع وثلاثين وخمس مائة هلالية (1140م)، لم يبلغ النيل فيها إلا دون أربعة عشر ذراعًا، فغَلِيت الأسعار لما شَرِقت البلاد (جفت من عدم الرى)، فأصاب الناس ضُر شديد بسبب تشريق (جفاف) البلاد».
وقد رسم البابا «غبريال الثانى» ثلاثة وخمسين أسقفًا، رافضًا تلقى أموال من أجل سيامتهم، متبعًا وصية سيده المسيح: «مجانًا أخذتم، مجانًا أَعطوا»، مؤمنًا بأن نعمة الله وعطيته لا تباعان، فذُكر عنه: «ولا يأخذ شيئًا على قسمة (رسامة) أسقف ولا غيره، ولا يستحسن ذلك لغيره.. وكان متشددًا فى هذا الحال، وكتب مسطورًا بذلك، ومنع من يأخذه ومن يدفعه».
ويُذكر عن البابا «غبريال الثانى» أن قَسًّا يسمى «بقيرة» قدم أموالا إليه كى يرسمه أسقفًا على بلاد «أخميم» فلم يقبل، فاستعان القس بولى العهد ابن الخليفة «الحافظ لدين الله» وقدم إليه أموالا كثيرة، وسأله أن يتوسط له عند الأب البطريرك حتى يسيمه أسقفًا، فذُكر: «فأنفذ (فأرسل) إليه (إلى البابا) ولى العهد، وتقل (ثقَّل، أى شدد وشقَّ) عليه بسببه، فلم يقبل واعتذر له، وكتب رُقعة (قطعةٌ من الورق أو الجلد يُكتب فيها) إلى الخليفة: أعلمه فيها قصة حال الأسقف، وأنه طلب الرياسة والكهنوت بالرشوة، وأن ذلك لا يجوز فى مذهب النصرانية.
فلما عرضت رُقعته على «الحافظ» شكره وعظّم منزلته ووقّع له بألا يُعترض فى مذهبه ولا يُلزمه أحد بما لا يجوز فى شرعه…. إلا أن البابا «غبريال الثانى» أراد ربح نفس ذلك القس فرسمه بعد زمن على كرسى آخر غير الذى أراده لنفسه. أمّا ما كان لذلك القس من مال، فقد أنفق فى عمارة «دير الشمع» وغيره.
وفى أيام «البابا غبريال الثانى»، أرسل ملك الحبشة خطابًا إليه وآخر إلى الخليفة، طالبًا سيامة أب أسقف إضافة إلى الأساقفة السبعة الذين بالحبشة، فى محاولة منه للاستقلال عن الكنيسة القبطية الأم، لكن «البابا غبريال» رفض طلبه. ولم يهدأ ملك الحبشة عن محاولاته، فعاد وأرسل هدية وخطابًا آخر إلى الخليفة، يرجوه التدخل لدى «البابا غبريال» فى أمر سيامة أسقف للحبشة.
فاستدعى الخليفة «البابا غبريال»، وطلب منه أن يحقق لملك الحبشة رغبته، فاعتذر البابا البطريرك للخليفة، وأوضح له أن قبول هذا لن ينتج عنه إلا ابتعاد كنيسة الحبشة عن الكنيسة المِصرية الأم، فاقتنع الخليفة وقبل عذره، ويذكر «القمص مَنَسَّى يوحنا» ما ورد فى مجلة «المقتطف»، نقلا عن كتاب «لُباب الآداب»، فيما يتعلق بتلك الواقعة: ذلك أن… والحديث عن «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى