No Result
View All Result
استكملنا الحديث فى المقالة السابقة عن «البابا يوحنا الرابع» حتى وفاته. ثم تحدثنا عن الخليفة «موسى الهادي» رابع خلفاء الدولة العباسية، وحكام «مِصر» فى أيامه: «الفضل بن صالح»، و«عليّ بن سليمان» الذى أقره الخليفة «هارون الرشيد» بعد توليه الخلافة إثر موت أخيه «موسى الهادى».
الخليفة «هارون الرشيد» (١٧٠-١٩٣هـ) (٧٨٦-٨٠٩م)
حين مات «الهادى»، تولى الخلافة أخوه «هارون الرشيد» الذى أسرع بالعودة لـ«بغداد» ووجد أن أمور الحكم استقرت له؛ فقد قام أحد القواد ويُدعى «خازم بن خُزيمة» بمحاصرة بيت «جعفر بن الهادي» وطالبه بالتنازل عن الخلافة لعمه؛ فيذكر المؤرخون أن «جعفر» أطل عليهم وقال: «من كان لى بَيعة فى عنقه فقد أحللتُه منها»؛ وهٰكذا آلت الخلافة لعمه «هارون الرشيد» دون منازع، الذى يُعتبر واحدًا من أشهر حكام التاريخ وعصره من أزهى العُصور.
وقد ذكر المؤرخون ورع «الرشيد» ومحبته للفقراء، وحنكته العسكرية وشجاعته فى قيادة الجُيوش؛ كما كان حاكمًا مدبرًا حازمًا يعرف دقائق الأمور فى مملكته مع اتساعها. وكان عصره أمانا وعدلاً للبلاد بفضل اهتمامه بمصالح شعبه. كذٰلك اهتم ببناء المدارس والكليات الكثيرة، ومهد الطرق، وبنى الجُسور والمستشفيات والملاجئ ودُور العجَزة؛ كما اهتم بالأدب فازداد فى عصره الشعراء والأدباء والمفكرون، وعم الرخاء؛ وأصبح اسم «هارون الرشيد» مثالاً للفخامة بين الكتاب والمؤرخين وبخاصة فى الغرب. وقد نقل «هارون الرشيد» مقر الخلافة من «بغداد» إلى مدينة «الرقة» ليشرف على «سوريا» ويكون قريبًا من حُدود الدولة البيزنطية التى كانت تهدد حدوده.
اضطرابات وثورات داخلية
فى عهد الخليفة «هارون الرشيد» جدَّد العَلَويُّون نشاطهم وأصبح «يَحيى بن عبدالله بن الحسن» مصدر خطر كبير على الخلافة العباسية: فقد استطاع أن يصل بحُدود إمارته من بلاد «الدَّيلَم» إلى «بحر قزوين»، وجذب إليه العلماء؛ فأرسل إليه «هارون الرشيد» والى «فارس» وكان «الفضل بن يَحيى البَرْمَكيّ» فنجح فى مفاوضته وجرى الصلح بينه وبين الخليفة، ولٰكنْ غضِب «هارون الرشيد» على «يَحيى بن عبدالله» بعد زمن وسجَنه.
وكان لـ«يَحيى» أخ يُدعى «إدريس» قد فر إلى بلاد «المغرب» واستطاع نشر دعوته هناك، وصار حاكمًا عليها، وبدأ فى تكوين جيش لانتزاع «أفريقية» من حكم العباسيِّين؛ فأرسل «هارون الرشيد» إليه «سُلَيمان بن جرير» الذى ادعى الطب ودس السُّم لـ«إدريس» الذى كان مريضًا، ولكن أتباع «إدريس» ناصروا ابنه «إدريس الثانى». وهٰكذا ظلت «المغرب» تابعة «للأدارِسة» وأخفق «هارون الرشيد» فى استعادتها.
أيضًا قام «الخوارج» بثوْرات عديدة فى أنحاء الدولة، وأشهرها ثورة «الوليد بن طريف الشَّيبانيّ» الذى استطاع الاستيلاء على «نصيبين» بعد قتل حاكمها، وبعد أن عظُم شأنه أرسل إليه «الرشيد» أحد قادته العظماء فاستطاع قتل «الوليد»؛ وتولت أخته «ليلى» قيادة أتباعه، وكانت تُشتهر بالجمال وقرض الشعر، وأُطلق عليها «چان دارك المسلمين» إذ استطاعت أن تثير الحماسة بين الثوار، وحاربت جند «الرشيد» حتى أغراها قائد الخليفة بترك القتال فتركته.
اهتمام بأمور الرعية
عين «هارون الرشيد» واليًا على «خُراسان» يُدعى «عيسى بن ماهان»، وكان ظالمًا لا يسعى إلا لجمع الثروات وزاد ظلمه فى البلاد حتى أرسل أهل «خُراسان» يشتكون قسوته؛ فخرج «الرشيد» للتحقق من الأمر واستدعاه فنفى عن نفسه ما وُجه إليه من اتهامات، وقدم للخليفة كثيرًا من الهدايا والأموال فكسب عطفه، ولٰكن بعد حين تأكد للخليفة ظلمه وخيانته وثروته الطائلة فخلع عنه الولاية وصادر أملاكه وثروته التى نُقلت على ١٥٠٠ بعير!!
وقد اندلعت بعض الثوْرات فى «أفريقية»، فأرسل «هارون الرشيد» أحد قواده المَهَرة للتغلب عليها. ثم تقدم «إبراهيم بن الأغلب» بطلب حكم «أفريقية» وجعل الحكم وراثيًّا بعد تعهده بدفع أربعين ألف دينار سنويًّا، فى حين كانت تكلف خزينة الدولة مئة ألف دينار ترسَل إليها من «مِصر»، ما جعل «هارون الرشيد» يقبل تولية «إبراهيم بن الأغلب» وقصَر الحكم عليه وعلى أسرته من بعده، بعد أن وضع شرطًا وهو قَبول الخليفة الجالس على العرش من يتولى الحكم عند خلو المنصب؛ وبذٰلك أصبحت «أفريقية» مستقلة وقامت دولة «الأغالِبة» فى «القيروان».
حروب خارجية
وعن أحوال الدولة الخارجية فى عهد الخليفة «هارون الرشيد»، فقد قامت حروب كثيرة بينه وبين المملكة البيزنطية بعد مخالفة الملكة «إيرينى» شُروط المعاهدة المعقودة فى زمن الخليفة «المهديّ»؛ فدارت الحُروب بينهما (١٧٥-١٩٢هـ) (٧٩٧-٨٠٨م) وكانت الغلبة لـ«هارون الرشيد»؛ لٰكن «الروم» جددوا القتال عام ١٩٨هـ (٨١٤م) ولم يستطع «الرشيد» العودة إليهم بسبب ثورة «رافع بن ليث» فى «خُراسان».
أمّا عَلاقة «الرشيد» بإمبراطور الدولة الرومانية «شارلمان»، فقد كان يشوبها الصداقة وتبادل الهدايا؛ إذ أرسل إليه الإمبراطور الرسل والسفراء لعدد من الأسباب منها: حماية المَسيحيِّين القاصدين «بيت المقدس» سواء لزيارة الأماكن المقدسة أو الاتِّجار، وطلب تعضيده ومعاونته فى إسقاط ملك الدولة البيزنطية.
ولاية العهد
وقد عقد «الرشيد» ولاية العهد لابنه «مُحمد الأمين»، ومن بعده لأخيه «المأمون»، ثم ابنه «القاسم» وسمّاه «المؤتمَن»، ثم قسّم البلاد بين أبنائه الثلاثة: فجعل «للمأمون» الشرق وهو «خُراسان» و«الريّ» إلى «همذان»، وجعل «للأمين» الغرب وهو «المغرب» و«مِصر» و«الشام»، و«للمؤتمن» جعل «الجزيرة» و«الثغور» و«العواصم»؛ إلا أن المؤرخين يذكرون أنه بذٰلك التقسيم قد وضع بُذور الفتنة والشر؛ وقد كتب فى ذٰلك أحد شعراء عصره قائلاً:
رَأَى الْمَلِكُ الْمُهَذَّبُ شَرَّ رَأْيٍ بِقِسْمَتِهِ الْخَلافَةَ وَالْبِلادَا
فَقَدْ غَرَسَ الْعَدَاوَةَ بَيْــــنَ آلٍ وَأَوْرَثَ شَمْلَ أُلْفَتِهِم بِدَادَا
(البِداد: النصيب من كل شىء)
أسرة البرامكة
وفى عصر «هارون الرشيد» ظهرت أسرة «البَرامِكة» فى أمور الحكم جدًّا؛ وكانت أسرة فارسية أسسها «بَرْمَك» المجوسيّ؛ ومع دُخول الإسلام بلاد «فارس» أسلم بنو «بَرْمَك» وناصروا الدولة العباسية فى دعوتها؛ وبعد استتباب الحكم لهم، صار أكبرهم «خالد» أحد وزراء «أبى العباس»، وفى عصر «المنصور» تعين واليًا على «فارس» ثم «المُوْصل»، وكان مشهودًا له بحُسن السيرة والتدبير، ومات فى خلافة «المهديّ». وكان لـ«خالد» ابن يسمى «يَحيى» اختاره «المهديّ» ليكون مُربِّيًا لابنه «هارون» فأحسن العمل والإخلاص إذ ظل إلى جوار «هارون الرشيد» فى أيام «الهادي» يؤيده فى أمر الخلافة من بعده؛ وكاد «الهادي» أن يقتُل «يحيى بن خالد البرمكى» لولا أن وافته المنية!
عندما تولى «هارون الرشيد» الحكم ولَّى «يَحيي» الوَزارة وفوض إليه شُؤون الدولة إذ كان يثق به ثقة كبيرة، ودفع إليه بخاتَم الخلافة قائلاً: «قد قلدتُك أمر الرعية، وأخرجتُه من عنقى إليك، فاحكم فى ذٰلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمضِ الأمور على ما ترى». وقد عُرف عن «يَحيى» كرم الخلق وسماحة النفس؛ وكان له خمسة أبناء تولَوا أرفع المناصب فى أيام حكم «الرشيد»، ذوو صفات سامية حتى إنهم نالوا ثناء الكتاب والشعراء من معاصريهم. وعندما وُلد للخليفة ولد: «الأمين»، سلمه إلى «فضل بن يَحيى» ليهتم بأمر تربيته، ثم ولّاه «خُراسان».
كان الخليفة «هارون الرشيد» يميل كثيرًا إلى «جعفر» أخى «فضل» فأرسله لإخضاع فتنة بين القبائل العربية فى «الشام»، وعندما نجح، ولّاه «مِصر» لٰكنه أبقاه قريبًا منه وعهد إليه بتربية ابنه «المأمون». ثم تولى «جعفر» الوَزارة وكان أمر توليه هكذا…. وفى… «مِصر الحُلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
No Result
View All Result