احتفل مَسيحيُّو الشرق الأحد الماضى بـ«عيد الشَّعانين» أو «عيد أحد السَّعَف». و«شَعانين» مشتقة من الكلمة الآرامية «هُوْشَعْنا» (وتناظرها فى اليونانية لفظة «أُوصَنّا»): أى «خلِّصنا»، حيث تتكون من مقطعين: «هُوْشَعا» ويعنى «خلِّص» أو «أَنقِذ»، و«نا» الذى يدل على شدة الاحتياج؛ ليُصبح المعنى: «خلِّص الآن».
ويعقب الاحتفال بيوم «أحد السَّعَف» الاستعداد للاحتفال بـ«أسبوع الآلام» أو «الأسبوع العظيم» أو «أسبوع الفِصْح» أو «أسبوع البَصْخَة». وكلمة «بَصْخَة» آرامية معناها بالعربية «العبور»، وبالعبرية «الفِصْح».
«أحد السَّعَف»
وفيه تحتفل الكنيسة القبطية بـ«عيد دخول السيد المسيح إلى أورشليم» فى موكب فريد لم تعهده البشرية من قبل: فلم يدخل بموكب خيل كالملوك والقوات فى ذلك العصر، ولا بأبواق تعلن استقباله قائدًا منتصرًا فى معركة، لكنه دخل متواضعًا بسيطًا ممتطيًا أتانًا، يحوطه موكب من البشر لمسوا محبته وأدركوا القوة العظيمة الكامنة فى شخصه وجميع أعماله وأقواله، وقد فُرشوا له القُمصان، واستُقبِلوه بسُعوف النخل وأغصان الشجر. أمّا الأبواق التى واكبت دخوله فلم تكن سوى صيحات ترحيب الشعب به: «أوصَنّا لابن داود! مبارَكٌ الآتى باسم الرب!»؛ صيحات تهليل أزعجت حسد رؤساء الكهنة من اليهود فتطالبوه أن يُسكت الشعب!
وتستوقفنى فى «دخول السيد المسيح إلى أورُشليم» ملامح عظمته: يتقدم نحو «أورُشليم» فى بساطة متناهية، ويُستُقبل كملك عظيم! ليس ملكًا أرضيًّا كملوك هٰذا العالم؛ لٰكنه ملك فى قلوب بسيطة قبِلته وهو يجول بينها يصنع خيرًا. إن العظمة الحقيقية ليست فى مظاهر تؤدَّى، بل تكمن فيما يقدمه الإنسان من أجل خير الآخرين والإنسانية؛ وهٰذا ما شعر به مستقبلو السيد المسيح آنذاك وأدركه البشر عمومًا على مر التاريخ؛ ولذا يقول «المهاتما غاندي»: «يُصبح الإنسان عظيمًا تمامًا بالقدر الذى يعمل فيه من أجل رعاية أخيه الإنسان».
قرأت عن راهب كينىّ بسيط يدعى «پيتر تابيشى»، يعمل مدرسًا فى إحدى قرى «كينيا» غير النائية؛ هذا الراهب أدرك رسالته فى الحياة وطريق العظمة: كان يقدم المحبة والعون لإخوة الإنسانية حتى إنه ظل يتبرع بما يساوى 80% من راتبه الشهرى لإعانة الطلبة غير القادرين ماديًّا لأجل استكمال دراستهم؛ فاستحق أن يعرِفه العالم بأسره عندما اختير «أفضل معلم فى العالم» من بين عشَرة آلاف مرشح من ١٧٩ دولة.
ونموذج آخر عن إنسان اختار أن يقدم المحبة من كل قلبه: فقد رفع طلاب إحدى جامعات «الصين» لافتات كثيرة داخل الحرم الجامعى، يطلبون من الناس الدعاء لشخص يُدعى «باى فانجلى» صنّفه التليفزيون المركزى الصينى ضمن أكثر عشر شخصيات تاريخية لمست قلب الشعب الصينى. كان «فانجلى» يشتغل بقيادة نوع من العربات، وفى الرابعة والسبعين من عمره قرر التقاعد والاستقرار بقريته. وذات مرة، بينما «فانجلى» عائد إلى منزله، إذ يشاهد أطفالًا كثيرين يعملون فى الحقول!!.. وحين علِم أنهم تركوا تعليمهم بسبب صعوبات مادية، قرر أن يعود إلى العمل من أجل تعضيدهم، بل مساعدة كل الطلبة غير القادرين على استكمال دراستهم. أخذ «فانجلى» يعمل أوقاتًا طوالاً وصلت أحيانًا إلى عشرات من الساعات، ويأكل قليلاً، ويرتدى ملابس رخيصة، وصار يقطن فى منزل بسيط الحال جدًّا من أجل توفير الأموال لتعليم الأطفال. ونجح فى سن التسعين فى أن يدفع آخر الأقساط، ثم تقاعد عن العمل بعد أن قدم ٣٥٠ ألف يوان صينى، ثم رحل عن العالم وهو فى الثانية والتسعين بعد إصابته بسرطان الرئة.
إن أعظم دُروس «عيد الشَّعانين» هو أن تكون عظيمًا بين البشر بالمحبة والخير. و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى