يحتفل أقباط “مِصر” يوم الأحد القادم بـ”عيد الشعانين” أو “عيد أحد السعف”، أو كما يطلق عليه اللاتين: “عيد الأغصان”؛ وهو تَذكار دخول السيد المسيح إلى “أورُشليم” واستقبال الجماهير له بالأغصان والهُتاف، وتكلمنا فى العام الماضى عن محبة السيد المسيح وتحننه على الجموع إذ كان يجول بين الشعب يصنع خيرًا: يشفى مرضى، يقيم موتى، يبارك طعامًا قليلاً فيشبع به آلافًا ويفيض فتعلقت به الجموع وأحبته وأرادته ملكًا عليها.
إلا أنه من العجيب أن يتكرر مشهد نداء الجماهير بعد أيام قليلة، ولٰكن فى هٰذه المرة تطلب صلبه وموته!! فيذكر “الكتاب المقدس” أن الوالى “بيلاطُس” كان له عادة أن يطلق للشعب أحد الأسرى فى “عيد الفصح” الذى كان يدنو. وبينما رؤساء الكهنة والشيوخ يسلمون لـ”بيلاطُس” السيد المسيح، أراد أن يطلقه فى العيد، إذ كان يعلم أنهم إنما سلَّموه حسدًا وحقدًا، فقال لهم : “من تريدون أن أُطلق لكم ؟ باراباس، أم يسوع الذى يُدعى المسيح ؟” إلا أنهم حرضوا الجموع على أن يطلبوا إطلاق سراح “باراباس” ـ الذى كان قد أُمسك فى فتنة أُشعلت فى المدينة وقتْل ـ وعلى المطالبة بصلْب السيد المسيح. وعندما سألهم الوالى : “وأى شر عمِل؟”، لم يجيبوه عن سؤاله، بل ازدادوا صراخًا طالبين صلبه؛ وهنا يتساءل المتأمل: هل كان من بين مستقبلى السيد المسيح فى أثناء دخوله إلى “أورُشليم” (“القدس”) من ارتفعت أصواتهم فيما بعد ذلك بأيام قليلة للمطالبة بحياته؟!! أعتقد : نعم . وهنا يظهر تساؤل أكبر : لماذا ذٰلك التغير الفجّ ؟!
بدايةً، يجب أن نتذكر أننا فى رحلة الحياة نلتقى أنواعًا شتى ومتباينة من البشر قد تصل فى اختلافاتها إلى حد التضادّ. فهناك الشخصيات البسيطة الواضحة التى يمكنك أن تعرِف ما تحمله من مشاعر بسهولة ويسر، ثم تتدرج الشخصيات فى سلسلة أعمق من درجات التعقد من حيث الموازنة بين ما تحمله من مشاعر حقيقية وما تريد إبرازه من مشاعر للآخرين وربما تكون متناقضة ؛ فلا يمكن إدراك أعماقها سريعًا إلا من خلال المواقف والوقائع ! لذٰلك يقولون إن مواقف الإنسان وبالأخص فى أوقات الاحتياج والخطر هى أعظم إعلان لحقيقة مشاعره وما يُبطنه .
ومن دون شك، كان فى وقت الاحتفال بقدوم السيد المسيح إلى ” أورُشليم ” أولٰئك الصادقون فى مشاعرهم: الذين أحبوا السيد المسيح بصدق، وشعروا بفيض محبته من خلال ما قدمه لهم من خير، فصاروا أمناء له مخلصين ؛ منهم على سبيل المثال: “يوحنا الحبيب” تلميذه، والمريمات اللاتى كن يخدِمنه ويتبعنه فسرن معه حتى “الصليب “. ولٰكن هناك أيضًا من تابعوه من أجل منفعة شخصية، إذ ظنوا أنه بوجودهم بالقرب منه يحصلون على ما يريدون، وهم فى أعماقهم لم يعرِفوه حق المعرفة؛ وهٰكذا توقفوا عن اتّباعه فى وقت الضيقة والشدة. أيضًا هناك من كان يرغب أن يتخذه ملكًا أرضيًّا يقوده فى حرب للتخلص من الاستعمار الرومانيّ، وحين أدرك أنه ليس كذٰلك انقلب عليه بل ارتفع صوته مع المطالبين بصلبه!! وهٰكذا يتباين البشر، وهٰكذا هم دائمًا فى رحلة الحياة. إلا أن السيد المسيح لم تتبدل محبته لأحد، ولم يتوقف عطاؤه وخيره على طبيعة البشر. ودائمًا هناك قيامة بعد الموت، وإشراقة شمس يوم جديد بعد ظلمة ليل مهما طال.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى