تحدَّثت في مقالة سابقة عن “الظاهر بيبرس” عندما صار سلطان مصر وأرسل إلى ملوك البلاد الأخرى بأمر سلطانه، ولقب نفسه بلقب “الملك القاهر” ثم غيَّره إلى “الملك الظاهر”. ثم بدأ في التقرُّب من الأمراء بتوزيع المناصب على من يثق به منهم؛ ومن الشعب بإلغاء الضرائب التي أقرها “المُظَفَّر قطز”، إلى جانب عفوه عن عدد من المسجونين. ومع بدء حكمه واجه “بيبرس” عددًا من الحركات الرافضة لحكمه لكنه أخمدها، ومنها: حركة خارجية في “دمشق” بزعامة نائب السلطان “علم الدين سنجر”؛ وحركة داخلية بزعامة “الكوراني”، وحركة “حصن الدين بن ثعلب” المعادية لحكم المماليك. كما استعاد “حلب” من التتار الذين كانوا قد تمكَّنوا منها.
وفي عام 659هـ (1261م) قام “الظاهر بيبرس” بإحياء الخلافة العباسية التي انتهت في “بغداد” بمقتل الخليفة العباسي بيد التتار عندما قام باستدعاء الأمير العباسي “أبا العباس أحمد” إلى القاهرة، لكنه لم يحضر؛ وفي تلك الأثناء وصلت “بيبرس” أنباء من الأميرين “علاء الدين بيبرس/طيبرس” و”علاء الدين البندقدار” عن هروب أمير عباسي هو “أبو القاسم أحمد” من المغول قاصدًا “دمشق”، فكتب إليهما “الظاهر بيبرس” يوصي به وأن يرسلا معه من يرافقه إلى القاهرة حيث استُقبِلَ استقبالاً حافلاً، فيذكر المقريزي: “فَكتب السُّلْطَان إِلَى النُّوَّابِ بِالْقيامِ فِي خِدمَتِهِ وَتَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ وَأَن يِسِيرَ مَعَه حِجَابٌ مِنْ دِمَشْقَ، فَسَار مِنْ دِمَشْقَ بِأَوْفَرَ حُرْمَةٍ إِلَى جِهَة مِصْرَ. فَخرج السُّلْطَان من قلعة الْجَبَل يَوْم الْخَمِيس تَاسِع شهر رَجَب إِلَى لِقَائِه وَمَعَهُ الْوَزير الصاحب بهاء الدّين بن حنا وقاضي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن بنت الأَعَز وَسَائِر الأُمَرَاء وَجَمِيع الْعَسْكَر وَجُمْهُور أَعْيَان الْقَاهِرَة ومصر ومعظم النَّاس من الشُّهُود والمؤذنين. وَخرجت الْيَهُود بِالتَّوْرَاةِ وَالنَّصَارَى بالإنجيل. فَسَار السُّلْطَان بِهِ إِلَى بَاب النَّصْر وَدخل إِلَى الْقَاهِرَة وَقد لبس الشعار العباسي وَخرج النَّاس إِلَى رويته وَكَانَ من أعظم أَيَّام الْقَاهِرَة. وشق القصبة إِلَى بَاب زويلة وَصعد قلعة الْجَبَل وَهُوَ رَاكب فَأنْزل فِي مَكَان جليل قد هيئ لَهُ بهَا وَبَالغ السُّلْطَان فِي إكرامه وَإِقَامَة ناموسه”.
أما عن أمر إحياء الخلافة العباسية فقد اهتم به “الظاهر بيبرس” بشكل خاص والمماليك بشكل عام؛ فقد ذكر “محمد سهيل طقوش” في كتابه “تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام” أن الحكم المملوكي بشكل عام كان في حاجة إلى دعم أدبي يضفي عليهم صفة الشرعية في الحكم كنتيجة لما شعروا به من أنهم مُغتَصبين للحكم من سادتهم الأيوبيين، إلى جانب نظرة كثير من الناس إلى أصلهم غير الحر، ممَّا جعلهم يبحثون عن سند شرعي لحكمهم.
وقد حاول عدد من حكام الإمارات إحياء الخلافة العباسية ومنهم: “الناصر يوسف” حاكم “دمشق” و”حلب”، و”المُظَفَّر قطز” لكنهما لم يتمكَّنا من ذلك. وجاءت الفرصة لـ”الظاهر بيبرس” لإعادة الحياة للخلافة العباسية، وبايع “بيبرس” والأمراء وكبار رجال الدولة “أبا القاسم” بالخلافة ولُقِّب بـ”الخليفة المستنصر بالله”؛ إلا أن عددًا من المؤرخين شكَّك في صحة نسب الخليفة الجديد، ويقول “محمد سهيل”: “ومهما يكن من أمر، في صحة نسب الخليفة الجديد، فقد حصل بيبرس على ما كان بحاجة ماسة إليه من مظاهر دينية تدعم سلطته، متغاضيًا عمَّا يشاع عن الخليفة ونسبه، غير أنه أوجد في الوقت نفسه، شريكًا له في المُلْك سوف يكون له أثر سلبي على منصب السلطنة إذا ما دب خلاف بين الخليفة والسلطان، على اعتبار أن الرأي العام الإسلامي سوف يساند الخليفة في موقفه. وعندما أدرك بيبرس هذه الظاهرة، بدأ يفكر في التخلص من الخليفة المستنصر بعد أن صبغ حكمه بالصبغة الشرعية”.
قام “بيبرس” بتجهيز حملة بقيادة الخليفة لاستعادة بغداد من يد التتار، وفي المعركة خسر الخليفة ولم يُعثَر له على أثر مما رجح أمر قتله في المعركة. وعندما علم “بيبرس” بمقتل الخليفة، لم يجد مفرًّا من استدعاء الأمير “أبي العباس أحمد” في مصر ومبايعته بالخلافة، ولُقِّب بـ”الحاكم بأمر الله”. لم يحصل الخليفة الجديد على صلاحيات كبيرة، واقتصر على ذكر اسمه في الخطبة.
وما زال الحديث في “مصر الحلوة”.. لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي