تحدثت المقالة السابقة عن “البابا يوحنا السادس” الحافظ للقانون الكنسيّ: والذي واجه عددًا من الحروب الداخلية وعناية الله أنقذته منها. وأشارت المقالة إلى تعرض البلاد للحروب والنزاعات في تلك الأيام، مع كثير من أحداث جسام مرت بـ”مِصر” كالغلاء. وقد عاصر “البابا يوحنا السادس” قدوم حملة الفرنج على “دِمياط”سنة 1210م، ونهْبهم وقتٰلهم وأسْرهم شعب المدينة. وقدِموا الفرنج مرة ثانية في عهد حَبرية “البابا يوحنا السادس”، من ناحية “رشيد” ومدينة “فُوَّه”.
وفي تلك الأيام أيضًا تعرضت “مِصر” لهبوط في مياه النيل وتأثرت تأثرًا شديدًا؛ فيذكر المؤرخ “أنبا ساويرس ابن المقفع”: “فشَرِقت (جفت) البلاد وخرِبت، وهلكت الرعية وتفرقت، وتشتت الخلائق وتمزقت، ومضى خَلق كثير من ديار «مِصر» إلى «الشام» بأموالهم وأولادهم، فهلكوا، وأخذوهم العربان في الطريق وماتوا بالبرد والجوع والقتل”، كما تعرضت “مِصر” وشعبها لنكبات الغلاء والجلاء والوباء حتى أكل الناس بعضهم بعضًا!!! إلا أن بعض كبار الناس الأغنياء من المسلمين والمسيحيين كانوا يتصدقون على الفقراء حسب قدر طاقتهم. واستمرت تلك السنون العجاف حتى سنة 599هـ (1202م) إلى أن رحِم الله شعبه من الغلاء وعاد الأمن لطرق السفر.
ويُذكر أنه في أيام “البابا يوحنا السادس” توقف إرسال أساقفة من كنيسة الإسكندرية إلى الخمس المدن الغربية – التي تقع في منطقة “بَرْقة” الحالية إحدى الولايات الثلاث المكونة “لليبيا” الآن – التي كانت تابعة للكرسي المَرقسيّ السكندري، إذ كانت الكنيسة القبطية ترسل أساقفة إلى تلك المدن بانتظام منذ القرن الأول الميلاديّ حتى القرن الخامس حين بدأ الأباطرة الرومان في مقاومة بطاركة الكنيسة، ثم قلت أعداد المسيحيين بتلك المنطقة وتوقف إرسال الأساقفة إليها منذ عهد ذلك الأب البطريرك.
وفي سنة 1216م، تنيح “البابا يوحنا السادس”، بعد أن قضَّى على الكرسيّ المَرقسيّ 27 عامًا؛ وقد حزِن عليه المِصريون جميعًا مسلمين وأقباطًا، فيذكر المؤرخ “القَس مَنَسَّى يوحنا”: “وكان لموته رنة حزن، لأنه كان محبوبًا من الجميع من أقباط ومسلمين. وكان أشد الناس حزنًا عليه بطريرك الروم الأرثوذكس، فقد شوهد يبكي عند تشييع جنازته بكاءً مرًا. غير أنهم دفنوه بغير أن يحتفلوا به احتفالًا عظيمًا لأن من عادة المصريين أن يعجلوا بدفن موتاهم، ولما كان موته بغتة لم يتمكن أحد من أساقفة الابروشيات من حضور جنازته.” وقد شهِد المؤرخون عن “البابا يوحنا السادس” أنه عاش حياة الزهد في المال، وأنه ألغى “السيمونية” (الحصول على الرتب الكهنوتية بالمال)، وقيل عنه: “وكان مُثْرِيًا (كثير المال) فلم يشَأ أن يثقل على الأمة في شيء، بل عاش كل أيام رئاسته يصرف على نفسه ومن معه، ويتصدق على الفقراء من ماله الخاص”. وقد ذكر كاتب سيرة “البابا يوحنا السادس” ما حدث قبل نياحته بيوم واحد: فذكر أن والده كان حاضرًا مع عدد من شيوخ القبط بـ”مِصر” لدى الأب البطريرك، وذكر أنه غُشي عليه قرابة ثلاث ساعات، ثم فتح عينيه وتحدث مع الحاضرين، وسألهم عن منصور تلميذه، وكان مريضًا، فقيل له إنه مات؛ فطلب إليهم أن يكفنوا تلميذه ويدفنوه لأنه سيكون عنده غدًا! قاصدًا أنه سيفارق الحياة مثله في الغد. ثم غُشي عليه مرة ثانية، وحين فتح عينيه قال لمن لديه من الحضور أنه سيكون خلاف شديد بين الرعية عمن يقدَّم بطريركًا، وسيظل الكرسي المرقسيّ شاغرًا زمانًا طويلاً. وفي اليوم التالي، تنيح “البابا يوحنا”، ودُفن إلى جانب قبر “البابا زخارياس”. وظل الكرسيّ المَرقسيّ خاليًا من بعد نياحة “البابا يوحنا السادس” قرابة 19 عامًا إلى أنسِيم “البابا كيرلس الثالث” (ابن لُقلُق) ليصير الخامس والسبعين في بطاركة الإسكندرية. و… والحديث في “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ