نحتفل بعد أيام قليلة باليوبيل الذهبيّ على رحيل رجل الصلاة: “القديس البابا كيرِلُّس السادس”، السادس عشَر بعد المئة في بطاركة الكرسيّ المَرقسيّ، الذي قضّى على الكرسيّ المَرقسيّ ١١ سنة و٩ أشهر و٢٩ يومًا. ولعل إحدى ملامح سنوات حَبرية “البابا كيرلس السادس” تلك العَلاقة الوثيقة والمحبة الكبيرة الممتلئة تقديرًا واحترامًا، اللتين ربطتا بين قداسته وبين “الرئيس جمال عبد الناصر”؛ فقد التقيا أول مرة عام 1959م، وتبادلا أحاديث ودية؛ حيث قول البابا إلى الرئيس: “إني ـ بعون الرب ـ سأعمل على تعليم أبنائي معرفة الرب، وحب الوطن، ومعنى الأخوّة الحقة؛ ليشبّ الوطن وَحدة قوية لديها الإيمان بالرب والحب للوطن”.
أما اللقاء الثاني، فكان عام 1965م، حيث طلب الرئيس من البابا بناء مقر يابويّ جديد لزيارته فيه، ثم أعلن سيادته إسهام الدولة في بناء الكاتدرائية الجديدة. وذات مرة، رغِبت أسرة “الرئيس عبد الناصر” لقاء البابا كيرلس، الذي رحب وقابل أفرادها داعيًا لهم بالصحة والبركة. ويُذكر فيما كان يهُم البابا بالانصراف، أن هنأه الرئيس بعيد جلوسه على كرسيّ “مار مرقس”؛ فما كان من البابا إلا أن شكر الرئيس، واضعًا يده على صدر سيادته بلطف! وقال: إني أضع يدي على يد الله، لأنه مكتوب عندنا: “إن يد الله على قلوب الرؤساء”؛ فسُر الرئيس بذٰلك. وفي مساء اليوم نفسه، حضر إلى المقر البابويّ أحد رجالات الدولة الرسميين، وأبلغ البابا ارتياح الرئيس للزيارة، وأشار أن الرئيس كان يشعر ببعض آلام في الصدر، سرعان ما زالت فور وضع البابا يده على صدره.
وعام 1967م، أصدر “الرئيس جمال عبد الناصر” قرارًا جمهوريًّا بإنشاء مجلس لإدارة أوقاف البطريركية، بعد فشل المجلس المليّ. وقد تبرع الرئيس بمبلغ عشَرة آلاف جنيه لدفع رواتب العاملين بالبطريركية، الذين لم يتقاضَوها عدة شهور.
ولا يمكن لذاكرة التاريخ المِصريّ أن تنسى موقف “البابا كيرلس”، وقت إعلان “الرئيس جمال عبد الناصر” تنحيه عن الرئاسة، مساء ١٩٦٧/٦/٨م، عقب نكسة الهزيمة: ففي صباح اليوم التالي، بينما البابا يصلي قداسًا كعادته اليومية، إذا به يذكر “مِصر” ورئيسها وشعبها، ثم فور انتهاء القداس تحرك مباشرة من الدار البطريركية، يصحبه وفد من الآباء المطارنة وعدد من الآباء الكهنة، إلى قصر الرئاسة، حيث التقى السيد “مُحمد أحمد” سكْرِتير “الرئيس عبد الناصر” الذي أرسل سيارة لفتح الطريق أمام سيارة “البابا كيرِلُّس”؛ إذ كانت الشوارع ممتلئة بالمظاهرات. وعند وصول “البابا كيرلس”، لم يجِد الرئيس في قصر الرئاسة، بل كان ملازمًا منزله؛ فترك رسالة إلى الرئيس مع السيد “مُحمد أحمد”، قائلاً: “قُل له إن الأقباط متمسكين به رئيسًا، وعاوزينه في مركز «القائد» و«الزعيم» للبلاد.”؛ ثم غادر قداسته بعد وعد بتوصيل رسالته. وكان بعد عودة البابا إلى مقره بالأزبكية، أن طلب الاستعداد لقرع أجراس الكنيسة وسْط دهشة الحاضرين؛ إلا أن اندهاشهم لم يدُم بعدئذ بقليل؛ إذ أعلن رئيس مجلس الأمة آنذاك السيد “مُحمد أنور السادات”: أن “الرئيس جمال عبد الناصر” نزل على إرادة الشعب!! وصباح العاشر من يونيو ١٩٦٧م، توجه البابا إلى القصر الجمهوريّ ليخُطّ كلماته في سجل الزيارات، معلنًا سعادته وارتياح الأقباط بقرار الرئيس، باستجابته لنداء الشعب في استكمال دوره رئيسًا للبلاد.
كذٰلك لا ينسى التاريخ، في يوم ١٩٦٨/٦/٢٥م، على الرغم مما كان يشعر به الرئيس من آلام بساقه، أنه أصر على حضور حفل افتتاح الكاتدرائية الجديدة. وقد اهتم البابا بمحادثة الرئيس هاتفيًّا للاطمئنان عليه في أثناء رحلة علاجه في “الإتحاد السوڤيتيّ”. وعند عودة الرئيس، استقبله البابا في المطار، وتعانقا طويلاً، وقال الرئيس للبابا: “لماذا لم ترسل مندوبًا عن غبطتكم، وأنت لم تتماثل بعد للشفاء التام؟”
وعندما فقدت البلاد رئيسها، توجه البابا لتقديم واجب العزاء، حزينًا، صامتًا فترة طويلة، شاعرًا بفداحة المُصاب. ويوم نياحة “البابا كيرلس السادس”، ذكرت إذاعة “صوت أمريكا”: “لقد تُوُفِّي الصديق الوفيّ لعبد الناصر”.