عيد “الميلاد المجيد” هو أحد الأعياد السيدية الكبرى، ومن أهم الأعياد التي يحتفل بها المسيحيون فهو تذكار ميلاد “السيد المسيح” من العذراء مريم ، فالميلاد حدث فريد معجزيّ فائق لم يتكرر، ولن يتكرر، على مر التاريخ والأزمان: إذ أن “السيدة العذراء” ولدت طفلاً دون رجل. وعندما ندرس النبوات نجد أن الأنبياء أشاروا إلى ميلاد السيد المسيح، فيذكر أشعياء النبي: “لأنه يولد لنا ولد ونعطى إبنًا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام”. كما أشار إلى ولادته من عذراء: “هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ».”؛ وحين تساءلت “السيدة العذراء”: “كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟”، أجابها الملاك المبشر: “اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللهِ.”. وأيضًا حدد “ميخا النبي” مكان السيد المسيح عنما تنبأ قائلًا: “أما أنت يا بيت لحم افراته وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل. ومخارجه منذ القديم. منذ أيام الأزل.”.
وقد أشار “القرآن” إلى ذٰلك الميلاد: ﴿إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ﴾.
أما عن موعد الميلاد فقد اختلف بين الغرب والشرق؛ إذ موعده غربًا في الخامس والعشرين من ديسمبر، على حين تحتفل به “الكنيسة القبطية” في الشرق في التاسع والعشرين من كيهك الذي يوافق السابع من يناير. وقد تحدد يوم احتفال المَسيحيِّين بعيد الميلاد عام 325م في مجمع مسكونيّ (عالميّ) بمدينة “نيقية” اجتمع به أساقفة العالم بأسره موافقًا “التاسع والعشرين من كيهك” حسب التقويم القبطي، و”السابع من يناير” حسب التقويم الميلاديّ.
الميلاد تحقيق للوعد
خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، ووضعه في “جنة عدن” ليحيا في سعادة في وجوده مع الله إذ يقول:”… ولذاتي مع بني آدم.”؛ ثم قدم الله للإنسان الوصية فتعداها فسرى فيه حكم الموت وهٰكذا خرج الإنسان من محضر الله، مطرودًا من الجنة، فاقدًا خلود الحياة الحقة وفقد كل من أبوينا “آدم” و”حواء” سلامهما الذي تمتعا به، وأُغلقت الجنة أمامهما. إلا أن الله لم يترك الإنسان في يأسه فقدم له وعدًا بأن “نسل المرأة يسحق الحية”، وظلت البشرية في انتظار تحقيق ذلك الوعد إلى أن تحقق وكتب “القديس بولس الرسول”: “ولٰكن لما جاء مِلء الزمان، أرسل اللهُ ابنَه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس …”؛ ومن ذٰلك الوعد حتى تحقيقه والله يُعد البشرية للميلاد العجيب عن طريق الأنبياء، والرموز والإشارات فجاء الميلاد تحقيقًا لوعد الله للبشرية.
رسائل الميلاد
يقدم الميلاد رسائله على مر الزمان وهي رسالة السلام، والمحبة، والتواضع؛ ولكنني أتحدث اليوم عن “السلام” أعظم احتياجات العالم اليوم.
السلام
مع خروج الإنسان من الجنة افتقد السلام، كما ذكرنا، وازدادت وطأة الخوف وشراسته وتصاعد عدم الإحساس بالأمان، بعد أن امتدت يد الإنسان لتقتُل شقيقه حسدًا وكراهيةً!! وهٰكذا سرت مشاعر الخوف والقلق في البشرية، وتاهت معالم السلام في حياة الإنسان، إلى أن أعلنت الملائكة استعادته في الميلاد. فتعد أنشودة الملائكة إلى الرعاة: “«المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة».” هي تلك الرسالة الخالدة عبر الأزمان، التي تقدم “السلام” الذي جاء “السيد المسيح” من أجل تقديمه للبشرية؛ فالميلاد استعادة للسلام الذي فُقد بين الله والإنسان. ففي “الميلاد”، وُلد المخلِّص الذي أعلنت الملائكة أن اسمه “يسوع” أي “مخلص”؛ كما قيل للرعاة:“… فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داوُد مخلِّصٌ هو المسيح الرب.”؛ فصار الميلاد تلك البشارة المفرحة بقرب انكسار الحاجز بين الله والإنسان؛ واستطاع الإنسان أن يجد السلام مع الله، ونفسه والآخرين.
السلام احتياج البشرية
إن العالم يئن اليوم تحت وطأة الاضطرابات والتشويش وفقدان الهُدوء والأمان والسلام، وفقدان السلام في حياة الإنسان يُعد من أهم المشكلات التي تعترض مسيرة تلك الحياة. إن الإنسان الذي فقد سلامه، تجده يخطو نحو المستقبل بتردد وارتياب، كما أن قدرته على العمل تتأثر بشدة لشعوره الدائم بأن هناك شيئـًا ما في الحياة يدفعه إلى الخوف والجزع والتراجع.
فالميلاد هو دعوة للحياة في سلام ومن يعرف قوة السلام الحقيقيّ في أعماقه ويعيشها، فإنه يسعى لنشره بينه وبين الآخرين؛ وهٰكذا ينتشر بين الجميع. وقد جاء السيد المسيح ليقدِّم للإنسان السلام؛ وكانت رسالته ممتلئة بالسلام والمحبة نحو الجميع؛ فقال السيد المسيح له المجد في موعظته على الجبل:“طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعَون.”. فإن كان الله هو واهب السلام وصانعه على الأرض، فكل من يسلك في هٰذا الطريق يسير على النهج الذي يقدِّمه الله، وهو ما يَزيد من مسؤولية رسالته نحو الجميع.
وصُنع السلام هو صفة من صفات الإنسان الذي يكون قلبه ممتلئـًا بالمحبة نحو الجميع، وأيضـًا يعيش حياته في حياة الصلاح والوداعة؛ فتمتلئ حياة مثل هؤلاء البشر بالسلام الداخليّ الذي يُشع في حياتهم ليضيء ويملأ حياة من يمر بهم في رحلة العمر، فينتشر السلام في الأرض. وعلى النقيض من ذٰلك، فإن الأشرار لا يحصلون على السلام في حياتهم جراء أعمالهم الشريرة، فيكونون في اضطراب دائم ويملؤون الكَون من حولهم صخبـًا وأنينـًا مثلما حدث مع “قايين” حين قتل أخاه، ثم قال له الله: “ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض.”، وعاش القاتل هائمًا على وجهه فاقدًا السلام جميع أيام حياته.
يتحقق السلام حين يرفض البشر كل ضغينة يمكن أن تكون في أعماقهم، ويزرعون الحب في قلوبهم بعضهم نحو البعض، مدركين أن رسالتهم في الحياة هي البناء والتعمير. أمّا الكراهية والحسد فلا يجلُِبان سوى الموت وفقدان السلام. أيضًا يتحقق السلام بين البشر حينما يسعى كل إنسان في محاولة جادة أمينة لفَهم الآخرين، مدركًا أن البشر جميعًا ما هم إلا أعضاء عائلة إنسانية واحدة. وبينما الإنسان يحاول إسعاد الآخرين، يتذوق هو نفسه معنى السعادة والسلام.
أما ما يَُعيق السلام في حياة البشر فهو تباعد كل إنسان عن أخيه الإنسان واستقاء المعرفة من خلال أعين الآخرين وتفسيراتهم الشخصية للمواقف، في حين يكون من الأفضل والأدق أن يعرف كل إنسان الآخر من خلال الحوار، والمعايشة والتواصل الحقيقيَّين؛ بقلب وفكر منفتحين يحملان الإنسانية المشتركة التي خلقنا عليها. وعلينا أن نتذكر أن سلام الإنسان مع الآخرين يأتي نتاجًا لمحبته لله التي تدعوه إلى صنع الخير مع جميع البشر، وزرع المحبة في أعماقه تجاه الآخرين. نعم، إن السلام يحتاج إلى عمل وتعب وجَهد إذ يوجد من يزرعون الشوك لقتل السلام. علينا أن ننزِع الشوك ونستمر في زرع المحبة في كل مكان.
في إحدى صفحات التاريخ المضيئة وبالتحديد في شتاء 1914م، أثناء لهيب الحرب العالمية الأولى، وفي ليلة “عيد الميلاد المجيد” على أرض “بلغاريا”؛ تسلل السلام بين الجنود البريطانيين والألمان ليوقف الحرب بينهما وتعرف النفوس التي أرهقتها وطأة الحرب معنى السلام. فلتكُن رسالتنا في هٰذا العيد عام 2020م هي رسالة سلام إلى الجميع: “اتْبَعوا السلام مع الجميع …”. كل عام وجميعكم بخير وسلام.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي