إنجيل هٰذا الأحد من (لوقا ١٥: ١١-٣٢)، وهو الأحد الثالث من “الصوم الكبير” المقدس، ويُسمى أحد “الابن الضال” أو كما تلقبه الكنيسة “الابن الشاطر”؛ وفي المثل الوارد به نجد:
• لم يُدرك الابن الأصغر قيمة وجوده مع أبيه، ظانًّا أنها ضد حريته الشخصية وسعادته التي يحلُم بها؛ فقرر أن يطلب ما له من مال ويذهب بعيدًا عن أبيه سعيًا في طلب السعادة الواهية: “فقال أصغرهما (أصغر الابنين) لأبيه: يا أبي، أعطني القِسم الذي يُصيبني من المال. فقسَم لهما معيشته. وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كُورة بعيدة …”؛ وهٰكذا الإنسان في العالم: كثيرًا ما يفكر أن الحياة الروحية واتّباع وصايا الله هما قيد على حريته وسعادته، وبدلًا أن يستخدم تلك الحرية الموهوبة له من الله في التحرر من الشر والخطيئة صيّرها بإرادته طريقًا للابتعاد عن الله!
• لماذا ترك الأب ابنه الأصغر يرحل؟ ألم يكُن يعرف ما سيعانيه؟ بلى، لقد كان يعرِف. لٰكنّ الأب في الوقت نفسه وهب لابنه الحرية في اختيار الطريق الذي يريد سُلوكه. إن الله لا يتراجع عن عطاياه التي يهبها للإنسان بل ينصحه ويرشده ويترك له حرية الاختيار. لقد قدَّم الله وصيته لأبينا “آدم” أن لا يأكل من “شجرة معرفة الخير والشر” ـ إذ نتيجة الأكل هي الموت ـ وترك له حرية تنفيذها؛ كما قدّمها لشعبه: “قد جعلتُ قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة. فاختَر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك …” (تث 30: 19). ومع كل نفس إنسانية ـ كما مع عذراء “سفر النشيد” ـ يتحول الرب ويعبُر عنها حين لا ترغب النفس في أن تفتح له باب قلبها؛ إنه يقف قارعًا على الباب لكي يدخل حياة تلك النفس التي ترغب في استقباله فقط: “هٰنَذا واقف على الباب وأقرَع. إن سمِع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي.” (رؤ 3: 20).
• عندما يبتعد الإنسان عن أبيه، يُدرك حينئذ قيمة الحياة الكريمة التي كانت معه ومحبته له وعنايته به: أمورًا لم يكُن يشعر بها وهو عائش معه إذ كان منشغلًا بذاته لا يرى سواها! وبعد أن ابتعد، أدرك تلك الكرامة التي كانت له وتنازل عنها، وأدرك أن الاحتياج الحقيقيّ هو إلى أبيه ذٰلك القلب الذي يتسع له بالحب ويشبعه من خيراته: “فلما أنفق كل شيء، حدث جوع شديد في تلك الكُورة، فابتدأ يحتاج. فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكُورة، فأرسله إلى حُقوله ليرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخُرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلم يُعطِه أحد. فرجَع إلى نفسه وقال: كم من أجير لأبي يفضُل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا!”.
• كان الابن حكيمًا إذ قرر أن يعود إلى محبة أبيه في الحال: “… أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي، أخطاتُ إلى السماء وقدامك، ولستُ مستحقًّا بعدُ أن أُدعى لك ابنًا. اجعلني كأحد أَجْراك. فقام وجاء إلى أبيه.”. وعليك أنت أيضًا، يا من تركتَ محبة أبيك: أن تعود؛ فهو ما يزال واقفًا منتظرًا رُجوعك إليه، فأنت ابنه الذي أحبه وبذل ذاته من أجل خلاصه، وأنت واثق أنه سيغفر لك خطيئتك: “هلم نتحاجج، يقول الرب، إن كانت خطاياكم كالقِرمز تبيَضّ كالثلج، إن كانت حمراء كالدُّوديّ تصير كالصوف …” (إش 1: 18)، وأنه سيردك إلى مرتبتك الأولى: “«وأعوِّض لكم عن السنين التي أكَلها الجراد …”. (يؤ 2: 25).