تحدثت مقالات سابقة عن الرهبنة التي نشأت على أرض “مِصر” ومنها امتدت إلى العالم، والقديس “أنبا أنطونيوس الكبير” أب الرهبان، ولقائه القديس “أنبا بولا” أول السواح ال تارك العالم ليحيا حياة الوَحدة قرابة ٨٠ عامًا لا يرى إنسانًا. وكما ذُكر فإن القديس “أنبا أنطونيوس” كان أول شخصية مؤثرة مهمة في الرهبنة، فقد دخل إلى البرّية الجوانية، وبعد قرابة عشرين عامًا من حياة الوحدة أرشد الرهبان الذين تتلمذوا على يديه؛ وهكذا جذبت حياته العطرة وفضائله كثيرين، وامتلأت البرّية بآلاف من تاركي حياة العالم لكي يحيَوا حياة السماء في صلاة وتعبد لله.
ثم كان أن بدأ نظام آخر للرهبنة على يد القديس “أنبا باخوميوس” الملقب بـ”أب الشركة”، الذي يُعتبر أول من شيد ديرًا يضم جماعة رهبانية تعيش حياة عبادة مشتركة.
وُلد “أنبا باخوميوس” بصَعيد “مِصر”، من والدين وثنيين، سنة٢٩٢م. وكان منذ طفولته محبًّا لحياة العفة والطهارة، غير محب للعبادة الوثنية ولا يشترك في ولائمها. وفي إحدى المرات اصطحبه والداه ليقدم ذبيحة إلى الأوثان، فعندما رآه كاهن الوثن صرخ آمرًا بإبعاده، مرددًا أنه عدو الآلهة! وعاد والداه والحزن يخيم عليهما.
ولما شب “باخوميوس” تجند، وفي أثناء انطلاقه مع زملائه الجنود لقمع ثورة على الإمبراطور، استراحوا في الطريق عند مدينة “إسنا” بعد أن نَهَكهم السفر. فجاء أهل المدينة يقدمون إليهم طعامًا وشرابًا بسخاء وفرح. تعجب “أنبا باخوميوس” من سلوك أهل المدينة، وتساءل عن سبب ذلك الكرم، فقيل له إنهم مَسيحيون يفعلون هذا من أجل إلٰه السماء الذي علَّمهم أن يكونوا محبين لكل إنسان؛ تأثر “باخوميوس” جدًّا وقرر أن يصير مَسيحيًّا حال عودته سالمًا. وما إن خمَدت الثورة وسُرِّح الجنود، حتى انطلق “باخوميوس” إلى إحدى القرى وسجّل اسمه في قائمة الموعوظين، ثم تعمَّد وبقي في القرية ثلاث سنوات يخدم الكل ويرعاهم بأعمال رحمة لا تتوقف. ولم يلبث أن اشتهر “باخوميوس” في القرية وأحبه الجميع، لٰكن الشوق إلى حياة الرهبنة كان يتنامى في قلبه، فتوجه إلى راهب قديس يسكن برّية جوار القرية، يُدعى “أنبا بلامون”، وطلب منه أن يقبله تلميذًا له؛ فما كان من “أنبا بلامون” إلا أنه حدثه عن صعوبة حياة الرهبنة، لٰكن “باخوميوس” ترجاه بإلحاح أن يقبله مظهرًا عزمه الأكيد أن يسلك بقلب ثابت في هٰذه الطريق الصعبة.
وعلى الرغم من محبة “أنبا باخوميوس” لحياة الوحدة، فإنه كان دائم التفكير في أولٰئك الذين يشتهون حياة الرهبنة والعبادة لله، لٰكنهم غير قادرين على ممارسة حياة الوَحدة القاسية، فكان يصلي بحرارة إلى الله من أجلهم، حتى ظهر له ملاك عندما كان يجمع حطبًا بمنطقة “طبانسين” Tabennhci وطلب منه أن يقيم بها ديرًا، وأعطاه لوحًا به البنود الأساسية لنظام الشركة التي يستطيع كثيرون من محبي حياة الرهبنة أن يمارسوها. وعندما أبلغ “أنبا باخوميوس” معلمه “أنبا بلامون” بما حدث، فرِح الأب جدًّا وذهب معه إلى “طبانسين”، وساعده في تأسيس الدير، ثم عاد لمغارته على وعد بلقائه مرة كل سنة.
نال نظام الشركة قَبول الكنيسة، وامتدحه القديس “أنبا أنطونيوس” مطوبًا “أنبا باخوميوس” على تأسيسه إياه. أما عن هٰذا النظام، فقد كان مناسبًا لكثيرين، وكان الراهب فيه يأكل مرتين كل يوم، ويمارس صلوات جماعية مع إخوته الرهبان، ويؤدي كل منهم عملاً بحسب مواهبه وقدراته، في رئاسة أب يدير الأمور ماديًّا وروحيًا، وكان اشتغالهم بأعمال أياديهم جزءًا أساسيًّا من حياتهم الروحية استنادًا إلى كلمات الكتاب: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلَا يَأْكُلْ أَيْضًا”. وقد سمحت أديرة الشركة بقَبول غير المِصريين مثل اليونان والرومان، كما سمحت لمن يحب منهم حياة الوَحدة أن يتركها ويتوحد. وكان القديس “أنبا باخوميوس” يجتمع بالمتوحدين، ويتابع أمر تدبير الرهبان بالأديرة، معروفًا بوادعته واتضاعه، وحبه الشديد لأولاده، ورقته في التعامل، وطول أناته، إلى جانب حزمه.
وفي سنة ٣٤٨م، انتشر وباء في صَعيد “مصر” تسبب في نياحة كثير من الرهبان، وتنيَّح بسببه القديس “أنبا باخوميوس” بعد أن كان قدأسس تسعة أديرة للرهبان، وديرين للراهبات، بإجمالي قرابة عشرة آلاف راهب وراهبة. وتعيد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية للقديس “أنبا باخوميوس” في الرابع عشر من شهر بشنس، في حين يعيد له الغرب في الرابع عشر من مايو. وقد أثر نظام الشركة الباخوميّ في العالم كله، حتى إنه تُرجم وطُبق عمليًّا شرقًا وغربًا بعد أن اقتُبس كثير منه.
و…وما زال الحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام
رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ