ما هي إلا أيام معدودات ويتشارك المِصريون صائمين جميعهم، مرتفعة قلوبهم إلى بارئهم، تظللهم رحلتان من أعز رحلاتهم الروحية: رحلة “الصوم الكبير”التي تستغرق ٥٥ يومًا، والتي بدأها مَسيحيو “مِصر” أول أمس، ورحلة “صوم رمضان” التي يشد رحالها مسلمو “مِصر” طوال ٣٠ يومًا، في بداية الشهرالمقبل. وإذ أرض وطننا المباركة تحتضننا نحن المِصريين كافةً، فلا شك أن مبدأ الصوم لَطالما جمعنا وارتفع بنفوسنا إلى الله خالقنا. فعلى مر عصور التاريخ، والمِصريّ يهتم اهتمامًا شديدًا بحياته الدينية، وعاشها بقوة والتزام قلبيّ في إيمان عميق بأنها أساس حياته الحقيقية الآتية بعد الموت.
والصوم دائمًا أحد الأركان الأساسية للعبادة الحقة، ومن أهم الممارسات التي عرَفتها البشرية في رحلة الحياة، فقد بدأ مع خلقة الإنسان الأول حين “أَوْصَى ٱلرَّبُّ ٱلْإِلٰهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا، لِأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ»”؛ وبعد أن خالف الإنسان ولم يُطِع، أرسل الله بأنبيائه وصاياه التي لم تخلُمن وصية الصوم.
ففي المَسيحية: “قدِّسوا صَومًا. نَادُوا بِٱعْتِكَافٍ”. ومارس السيد المسيح الصوم أربعين نهارًا وأربعين ليلةً، قبل أن يعلِّم بأهميته ويؤكد أن الله يراه ويجازي كل إنسان عليه، وأنه متى اقترن بالصلاة فهو طريق الغلبة على الشيطان والشر.
وفي الإسلام، نجد وجوب الصوم وأهميته: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وعن صوم شهر رمضان: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾؛ وفي الحديث يُذكر أن الصوم إنما هو لله: “كُلُّ عَمَلِ ٱبْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا ٱلصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”.
ويرتبط الصوم بعدد من الممارسات والفضائل الروحية من أهمها الصلاة وأعمال الخير؛ فيذكر الكتاب ما يريده الله من الإنسان في الصوم: “أليس هٰذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ ٱلشَّرِّ، فَكَّ عُقَدِ ٱلنِّيرِ، وَإِطْلاَقَ ٱلْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ ٱلْمَسَاكِينَ ٱلتَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوَهُ، وَأَنْ لَا تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ”، فالصوم يرتبط بالتوبة عن الشر والخطيئة التي باتت حملاً ثقيلاً على الإنسان، كما يرتبط الصوم ارتباطًا كبيرًا بالصلاة التي ترتفع بالنفس إلى الله، طالبة توبة حقيقية، ممجدة إياه على عظم أعماله. ويقترن الصوم أيضًا بمحبة الآخرين وتقديم أعمال الخير والرحمة التي يسعى الإنسان لتقديمها إلى أخيه الإنسان كي يصير رحيمًا متمثلاً بالله الرحيم الصانع الخيرات لكل البشر.
والصوم هو تدريب للإنسان على ضبط رغبات جسده من طعام وشراب وأي أهواء خاطئة؛فينمِّي صبره ويقوِّي روحه ويسموبها. وفي الصوم يرتبط الإنسان بالآخرين إذ يجعله يشعر بحاجات المعوزين مما يزيد من التعاطف بين الناس.
أمّا عن ثمار الصوم الذي يُرضي الله، فيقول الكتاب: “حِينَئِذٍ يَنْفَجِرُ مِثْلَ ٱلصُّبْحِ نُورُكَ، وَتَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعًا، وَيَسِيرُ بِرُّكَ أَمَامَكَ، وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ يَجْمَعُ سَاقَتَكَ. حِينَئِذٍ تَدْعُو فَيُجِيبُ ٱلرَّبُّ. تَسْتَغِيثُ فَيَقُولُ: هٰأَنَذَا. إِنْ نَزَعْتَ مِنْ وَسْطِكَ ٱلنِّيرَ وَٱلْإِيمَاءَ بِٱلْأُصْبُعِ وَكَلَامَ ٱلٰإِثْمِ، وَأَنْفَقْتَ نَفْسَكَ لِلْجَائِعِ، وَأَشْبَعْتَ ٱلنَّفْسَ ٱلذَّلِيلَةَ، يُشْرِقُ فِي ٱلظُّلْمَةِ نُورُكَ، وَيَكُونُ ظَلَامُكَ ٱلدَّامِسُ مِثْلَ ٱلظُّهْرِ.وَيَقُودُكَ ٱلرَّبُّ عَلَى ٱلدَّوَامِ، وَيُشْبعُ فِي ٱلْجَدُوبِ نَفْسَكَ، وَيُنَشِّطُ عِظَامَكَ فَتَصِيرُ كَجَنَّةٍ رَيَّا وَكَنَبْعِ مِيَاهٍ لَا تَنْقَطِعُ مِيَاهُهُ”.
كل عام وجميع المِصريين بخير، ببَدء “الصوم الكبير”، وبقرب” صوم رمضان”، رافعين قلوبنا إلى الله أن يقبل أصوامنا وصلواتنا، ويمُن على بلادنا “مِصر” بكل البركات والخير والسلام، ويحفظ العالم من الحروب والشرور.
و…وما زال الحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ