بينما نسير كلٌّ في طريقه، نجد أن حياتنا وقد امتلأت بعديد من القصص والنماذج، منها ما يُسعد القلب، ومنها ما يُحزنه، ومنها ما نراه ما ينضم إلى عالم البطولات والتضحيات. وفي حياتنا نرى أيضًا نماذج تنير السبيل أمامنا، تنقش آثار خطواتها فيتتبعها الآخرون ويهتدون، محفورة في ذاكرة الزمن. ومن أعمق ما يمر بحياة البشر وأصدقه وأنبله هو المحبة الخالصة النابعة من قلب “الأم”. إن “مِصر” بعد يومين تحتفل بـ”عيد الأم”، أو لنقُل التماسًا للدقة: تحتفل بالحب الذي يتدفق من أعماق قلب “الأم” راويًا كل مناحي الحياة. وعلى سبيل احتفالنا، نحاول اليوم التأمل في بعض من سمات ذلك الحب العظيم الذي يتفرد به جوهر الأمومة.
عطاء بلا حدود
يقول الشاعر “جبران خليل جبران”: “الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف”. نعم، فهي كالنهر المتدفق الذي يمُد كل ما هو حوله بأسباب الحياة والجمال والخير. الأم هي الشخص الذي يفكر أولاً فيمن حوله، والمنشغل دائمًا بالمَنح والإغداق فيه! ومن الكلمات الجميلة التي سمعتها عن شخصية الأم: “إنها الإنسان الوحيد الذي لا يفكر في الدعاء لنفسه في الصلاة، بل تكون دائمًا منشغلة بالدعاء لأبنائها”؛ وكما تضعهم أمامها في كل ما هو خير، تضع نفسها أمامهم في لحظات الخطر والألم!!
حب حتى المنتهى
الأم لا تهتم بذاتها قدر اهتمامها بأبنائها، تضع نفسها بلا تردد لإنقاذهم من أي شر. وهنا تحضرني قصة دارت أحداثها في اليابان: فبعد واحد من زلزالها المدمرة المشهورة بها، وصل رجال الإنقاذ إلى منزل امرأة شابة، وبصعوبة رأَوا جسدها من خلال شقوق بيتها المتهدم، كانت راكعة على ركبتيها وكأنها تسجد تحت أنقاضه المنهارة، بعد أن كُسر ظهرها ورأسها!! وضع قائد فريق الإنقاذ يده في فتحة ضيقة من جدار البيت ليرى هل تزال على قيد الحياة! عرف أنها ماتت!! لٰكن يده أحست بشيء غريب؛ وإذا به يصرخ: طفل! يوجد طفل!! لقد وجد فريق الإنقاذ رضيعًا، ابن ثلاثة أشهر على الأكثر، ملتحفًا ببطانية تحت جسم والدته، بعد أن جعلت نفسها هي الغطاء الأكبر لحمايته من الموت!! كان نائمًا!!! حمله قائد فريق الإنقاذ، واستدعى طبيبًا لفحصه؛ ثم وجد هاتفًا محمولاً داخل البطانية، وكانت رسالة على شاشته: “إذا كنت تستطيع البقاء على قيد الحياة، يجب أن تتذكر أنني أحبك”!!!
احتمال وعزيمة لا تلين
وتتسم الأمومة بالتحمل الممزوج بالحب والصبر دون جُرح. دائمًا ما تكون نفسها متأهبةً لأن تحتمل من أجل أبنائها كل شيء، بل أبناءها أنفسهم عندما يشطُّون بمعاملة قاسية نحوها!!! وفي احتمالها لا تتوقف عن محبتهم والبحث عن سعادتهم، وحفزهم وتشجيعهم وخاصة في أوقاتهم الصعبة؛ مثلما حدث مع Thomas Edison: رفضه معلموه، بل أبوه، وأطلقوا عليه: “توماس الأحمق”!! وعلى الفور، هبت والدة “توماس” صادةً سهام السخرية الموجهة إلى قلبه، شاعرة بوخزاتها في قلبها هي، وانبرت تسانده، ولم تفتأ أن تشجعه وتدعمه، إلى أن أدرك العالم بأسره عبقريته واعترف بذكائه وفضله واختراعاته.
ونرى الأم شمعة تحترق من أجل أن تضيء لأبنائها؛ يقول الكاتب الكبير “مصطفى لطفي المنفلوطي”: “الأم هي الينبوع الذي تتفجر منه جميع عواطف الخير والإحسان في الأرض”؛ هي أول كائن يشارك الأبناء مشاعرهم. يحكي عميد الأدب العربي “طه حسين” أنه بينما يشارك أشقاءه الطعام في صحن كبير، أخطأت يده طريقها بعيدًا عن الصحن؛ ليسمعهم وقد تعالت ضحكاتهم عليه؛ وفي اللحظة نفسها، سمِع دموع أمه من أجله!!!
كتابة التاريخ
ولا عجب إن رأينا الأم تصنع التاريخ وتسطره. وصدق المثل الروسي: “الأم تصنع الأمة”. لا شك أن الأوطان تقوى بأبنائها. واليقين الأكبر أن أبناء الوطن يقوَون وهم في المهد يُكَوَّنون، فسر القوة يبدأ من البيت، من حضن الأم. الأم هي المعلم الأول، ولها قدر كبير من التأثير في أبنائها، هي أول مدرسة يتعلم منها الطفل مبادئه وأفكاره وتصرفاته. ولن نذهب بعيدًا وأمامنا مثلان لا يُنسيان، الكاتبان الصحفيان “مصطفى أمين” و”على أمين”، صاحبا فكرة الاحتفال بعيد الأم، كان لوالدتهما دور وتأثير كبيران في محبتهما للوطن، واتجاههما إلى السياسة، وكثيرًا ما حكى الأستاذ “مصطفى أمين” عن تأثير والدته فيه ووطنيتها أيام ثورة ١٩١٩، حتى استقى منها حب الوطن إلى النهاية.
في الاحتفال بعيد الأم، أقول إلى كل أم: كل عام وأنت بكل خير.
و… والحديث في مصر الحلوة لا ينتهي!
الأسقف العام
رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي