مع نهاية العصر العباسيّ الثالث وسقوط الدولة الأيوبية، بدأ حكم المماليك في “مِصر”، ضامًًا بلاد “الشام” و”الحجاز”. ويقسِّم المؤرخون الدولة المملوكية إلى دولة المماليك البحْرية ودولة المماليك البُرجية؛ وقد شهِدت “مِصر” آنذاك عددًا كبيرًا من حكامهم ما أدى إلى إثارة كثير من الاضطرابات والقلاقل.
المماليك
“المماليك” كلمة مفردها “مملوك”، ويُقصد بها العبد الذي سُبي وخضع للبيع والشراء؛ وقد اقتصر معناها على فئة من العبيد البيض الذين كان الخلفاء والأمراء وكبار قادة الدولة يشترونهم من أسواق النِّخاسة البيضاء، بهدف تربيتهم تربية عسكرية خاصة من أجل استخدامهم فرقًا عسكرية لتقوية النفوذ، وذٰلك منذ عهد الخليفة العباسيّ “المأمون” ثم أخيه “المعتصم”. واشتُهرت بلاد ما وراء النهر – خاصة “سَمَرْقَنْد” و”فَرْغانة” و”أُشْرُوسَنَة” و”الشاش” و”خُوارِزْم” و”القَبْچاق” – بتصدير الرقيق الأبيض من الأصل التركيّ، من خلال شرائهم أو أَسرهم في الحروب، أو تقديمهم هدايا إلى الخلفاء. وبمرور الزمن، ازدادت جدًّا قوة المماليك الأتراك وقوي نفوذهم في عصر الدولة العباسية، حتى ذُكر عنهم أنهم منذ مقتل الخليفة العباسيّ “المتوكل”: “استضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في أيديهم كالأسير؛ إن شاؤوا أبقَوه، وإن شاؤوا خلعوه، وإن شاؤوا قتلوه”!!
أما “مِصر”، فقد شهدت عددًا كبيرًا من المماليك منذ حكم “أحمد بن طولون” الذي اعتمد عليهم في قيام دولته والاستقلال بـ”مِصر”، فيذكر “المقريزي” أن الجيش المملوكيّ قد وصل تعداده إلى ما يزيد على أربعة وعشرين ألف غلام تركيّ. كذٰلك اعتمد على المماليك “الدولة الإخشيدية”، فيذكر “ابن تَغْري” عن الإخشيد “محمد بن طُغْچ”: “وبلغت عِدة (عدد) مماليكه ثمانية آلاف مملوك، وكان عِدة (جنود) جيوشه أربع مئة ألف. وكان قويّ التحرُّز (اتخاذ الحذر والوقاية) على نفسه، وكانت مماليكه تحرسه بالنوبة عندما ينام كل يوم ألف مملوك”. وفي أيام الدولة الفاطمية، استخدم الخليفة الفاطميّ “العزيز بالله” الأتراك في شغل المناصب القيادية والوظائف العامة. ويذكر المؤرخ “أحمد العبادي”: “واهتم الفاطميون بتربية صغار مماليكهم، وهم في الواقع أول من وضع نظامًا تربويًّا للمماليك في «مِصر»”.
ومع انهيار الدولة الفاطمية، قامت الدولة الأيوبية التي اعتمدت بدرجة كبير على الأكراد والمماليك الأسدية (نسبة إلى “أسد الدين شِيرِكُوه”)، والمماليك الصالحية الناصرية (نسبة إلى “صلاح الدين الناصريّ”)؛ يذكر العبادي: “والدولة الأيوبية، كما هو معروف، كردية الأصل، ولٰكنها جاءت عن طريق الدولة السَّلْچُوقية التركية ومماليكها، ونقلت عنها كثيرًا من عاداتها وأنظمتها التركية المشرقية، وطبقتها في «مِصر» و«الشام» لأول مرة … وأخذ «صلاح الدين» يعمل بعد ذٰلك على محو آثار الدولة الفاطمية … فأزال مثلاً جنود الفاطميين من العبيد السود والأرمن وغيرهم، وأخذ في تكوين جيش قِوامه «المماليك الأسدية» القدماء، وسائره (وباقيه) من الأحرار الأكراد … فضلاً عن المماليك الأتراك الذين اشتراهم لنفسه، وسماهم «الصلاحية» نسبة إلى اسمه، أو «الناصرية» نسبة إلى اللقب الذي أضفاه عليه الخليفة «العاضد» حين ولّاه الوَزارة”. وفي ظل الخلافات والصراعات التي شهِدها البيت الأيوبيّ – تحدثت عنها مقالات سابقة، لجأ كل أمير إلى تكوين قوة خاصة به من المماليك؛ ما أدى إلى زيادة نفوذهم في كل ما مر بالبلاد من أحداث، فكانت لهم القدرة على التحكم في عزل سلطان وتولية آخر؛ فهم من ساندوا السلطان “الصالح نَجم الدين أيوب” ليصبح حاكم “مِصر”، ما جعله يكثر من شرائهم حتى صار معظم جيشه منهم، بل جعلهم حرسه الخاص؛ ثم اختار جزيرة “الروضة” مقرًّا لهم بعد أن ضج أفراد الشعب من عبثهم بممتلكاتهم وباعتداءاتهم عليهم؛ فبنى قلعة لهم سكنوا بها وعُرفوا باسم “المماليك البحْرية الصالحية”.
و… وما زال الحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ