تحدَّثت في المقالة السابقة عن الخلافات التي أدَّت إلى حرب بين المغول و”الخوارزمية”، وتمكَّن المغول من السيطرة على إقليم ما وراء النهر، وإقليم “خراسان” ومدنه ثم توسُّعهم نحو الغرب في عهد “أوكتاي”، والزحف نحو مناطق غربي آسيا بعد السيطرة على العديد من المناطق. ثم جاء “مونكو خان” وهدف إلى القضاء على الإسماعيلية ثم التوسع، وقد عهد بهذه المهمة إلى أخيه “هولاكو”، فقام بالقضاء على الإسماعيلية، ثم أسقط الخلافة العباسية بعد الاستيلاء على “بغداد”. ويذكر الباحثون: “ثم زحف «هولاكو» حفيد «چنكيزخان» غربًا نحو فارس في فبراير سنة 1254م. فقضى على قلاع الشيعة الإسماعيلية الباطنية بها، ثم قضى على الخلافة العباسية وجميع ولايات غرب آسيا، ولم يبقَ أمامه سوى الدولة المملوكية في «مصر» و«الشام»”.
هاجم المغول “بلاد الشام”؛ وتمكَّنوا من الاستيلاء على عدد من المدن مما أثار الرعب في بلاد الشام؛ فأسرع الملك “الناصر” الذي أدرك استحالة الوقوف ضد المغول وحده بطلب المساعدة من المماليك في “مصر”؛ فقام السلطان “قطز” الذي أدرك خطورة ما تتعرض له البلاد من أخطار، بإرسال نجدات عسكرية على الرغم من سوء العلاقات بينه وبين الملك “الناصر”. وفي المقابل رأى بعض أمراء الأيوبيين أن يخضعوا للمغول خوفًا من فنائهم أمام العدو، ومن أولئك الملك “الأشرف موسى” سليل “أسد الدين شيركوه”.
خرج الملك “الناصر” بجيوشه لقتال المغول على مسافة يسيرة من “دمشق”، إلا أن معظم جيشه تفرَّق عنه، فقرر اللجوء إلى “غزة” مع ما تبقى له من جيش، وترك “دمشق” لوزيره “زين الدين الحافظي” الذي سلَّم المدينة للمغول عام 658هـ (1260م)، ثم استسلمت “أنطاكية”. وهكذا لم يبقَ خارج نطاق حكم المغول في الشرق الأدنى سوى “الديار المصرية” و”الحجاز” و”اليمن”. وكان “هولاكو” قد أرسل رسالة إلى “المظفر قطز” يطلب منه الاستسلام، جاء فيها:
“من ملك الملوك شرقًا وغربًا، الخاقان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء. يعلم الملك «المظفر قطز»، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعَّمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك «المظفر قطز»، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أننا نحن جند الله في أرضه، خُلِقنا من سخطه، وسُلِّطنا على من حلَّ به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتَّعِظوا بغيركم وأسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ. فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقُّ لمن شَكَى. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهَّرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب. فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال. فالحصون لدينا لا تَمنَع، والعساكر لقتالنا لا تَنفَع، ودعاؤكم علينا لايُسمَع. فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عند كلام، وخنتم العهود والأَيْمان، وفَشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون. وسيعلم الذين ظلموا أي مُنقَلَب ينقلبون. فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم. فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هَلَكتم، فلا تُهلِكوا نفوسكم بأيديكم. فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أنَّ نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدَّرة والأحكام المدبَّرة. فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، وبغير الأهنة لملوككم عندنا سبيل. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًّا، ولا كافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية. فقد أنصفنا إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهُدَى، وخشيَ عواقب الرَّدى، وأطاع الملك الأعلى.
ألا قل لمصر ها هُلاون قد أتى بحد سيوف تُنتَضَىوبواتر
يصير أعز القوم منا أذلة ويُلحَق أطفالاً لهم بالأكابر
فقام “قطز” بجمع الأمراء لدراسة ما تتعرَّض له البلاد..
وما زال الحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأُرثوذكسي