ذكرت في المقالة السابقة دور “الظاهر بيبرس” في إحياء الخلافة العباسية عندما قام أولاً باستدعاء “أبي العباس أحمد” إلى القاهرة، لكنه لم يحضر؛ وتزامن ذلك مع هروب الأمير العباسي “أبي القاسم أحمد” إلى “دمشق”، فأوصى به “الظاهر بيبرس” حتى وصل “أبو القاسم” إلى القاهرة واستُقبِلَ استقبالاً حافلاً، وبويَع بالخلافة ولُقِّب بـ”الخليفة المستنصر بالله”؛ خرج الخليفة العباسي على رأس حملة لاستعادة بغداد من يد التَّتار، لكنه هُزِم ولم يُعثَر له على أثر له. قام “بيبرس” باستدعاء الأمير “أبي العباس أحمد” في مصر وبايعه بالخلافة، ولُقِّب بـ”الحاكم بأمر الله”. لم يحصل الخليفة الجديد على صلاحيات كبيرة، واقتصر على ذكر اسمه في الخُطبَة. وقد عاش الخليفة العباسي في مناظر الكبش – قلعة الكبش في الجهة الغربية من جامع ابن طولون، وكانت منطقة قصور – حتى توفي ودُفِنَ بجوار السيدة نفيسة؛ وهو يُعد أول خليفة عباسي مات في القاهرة.
ويذكر المقريزي أن “الظاهر بيبرس” قام بإعدادالأموال والاحتياجات لعمارة الحرم النبوي بالمدينة، كما أرسل العمال والأدوات لعمارة قبة الصخرة بمدينة القدس. أيضًا أمر بعمارة ما تَهدَّم من قلعة الروضة، فيقول: “فَرَم مَا فَسَد مِنْهَا ورتَّب بهَا الجندارية وَأعَاد لَهَا حرمتهَا وَفرق أبراجها على الأُمَرَاء: وهم الأَمِير «قلاوون» و«الأمير عز الدين الحِلِّي» و«الأمير عز الدين أوغان» و«الأمير بيسري» وَغَيرهم – لكل أَمِير مِنْهُم برج وَأمرهمْ أَن تكون اصطبلاتهم وَبُيُوتهمْ فِيهَا وسلمهم مَفَاتِيح القلعة. وَأمر بعمارة القناطر بجسر شبرامنت من الجيزية لِكَثْرَة مَا كَانَ يشرق من الأَرَاضِي فِي كل سنة؛ فانتفعت الْبِلاد بِهَذِهِ القناطر”. وإعمار المدرسة الظاهرية في حي بين القصرين. اهتم “الظاهر بيبرس” بعمارة أسوار الإسكندرية، وَبَنَى مركز مراقبة بثَغر رشيد لمراقبة السفن القادمة للبلاد، وأمر بردم مصب النيل عند دمياط حتى لا تتمكَّن السفن الكبيرة من دخول البلاد عن طريق دمياط، وبخاصة الفرنج.
ويذكر المقريزي اهتمام “بيبرس” بعمارة ما خرَّبه التتار من قلاع الشَام: “وَهِي قلعة دمشق وقلعة الضلت وقلعة عجلون وقلعة صرخد وقلعة بصرى وقلعة شيزر وقلعة الصبيبة وقلعة شميميش وقلعة حمص. فعُمِّرت كلهَا ونُظِّفَت خنادقها ووُسِّعَت أبراجها وشُحِنَت بِالْعدَدِ وجرد إِلَيْهَا المماليك والأجناد وخُزَّنَت بهَا الغلات والأزواد وحُمِلَت كَثِيرَة إِلَى دمشق وَفُرِّقَت فِي الْبِلاد لتصير تقاوي الفلاحين. ورتَّب السُّلْطَان بِدِمَشْق بِعدْل وَبنى مشهدًا فِي عين جالوت عرف بمشهد النصْر”. كما أنفق “بيبرس” الكثير من المال لإصلاح الطرق ترتيب أمور البريد ليتمكن من ربط القاهرة بسائر أنحاء البلاد، فأقام المحطات البريدية على مسافات متقاربة (قرابة 12 ميلاً/ 19 كم). وقد سهل قرب المحطات من النقل السريع للبريد، أمَّا البريد آنذاك فقد اقتصر على: إيصال أوامر السلطان إلى نوابه في مصر وخارجها، استقبال الرسائل من النواب، استقبال التقارير من ولاة الأعمال. كما استخدم البريد الجوي عن طريق الحمام الزاجل، فخصَّص له برَّاجون يعتنون بالحمام ويُدَرِّبونه.
اهتم “بيبرس” بالقوة العسكرية للدولة فقام بتكوين جيش من المماليك ونَظَّم فِرَق الجُند به، فأكثر من شراء المماليك، وبنى لهم دور خاصة لإقامتهم. وأيضًا اهتم بالجيوش البحرية وتنميتها مع عام (668هـ/ 1269م)؛ فكانت صناعة السفن تتم في الفسطاط وجزيرة الروضة والإسكندرية ودمياط، تحت إشراف السلطان “بيبرس” الشخصية.
وقد وضع “الظاهر بيبرس” نظام ولاية العهد فيذكر “محمد سهيل”: “سَنَّ بيبرس نظام ولاية العهد في دولة المماليك البحرية، وحَصَر وراثة العرش في أسرته. ففي (عام 662هـ/ 1263م) ولَّى ابنه بركة خان ولاية العهد ليخلفه في الحكم وذلك بدافع عاملين: الأول، ليحول دون استمرار الصراع على السلطة بين الأمراء عقب وفاة السلطان الحاكم. الثاني، ليحصر الحكم في أسرته. وأمر بأن يُقام احتفال حاشد بهذه المناسبة، وكتب له تقليدًا بولاية العهد، ولُقِّب بـ”الملك السعيد”.” وجدَّد “بيبرس” ولاية عهد ابنه مرة ثانية في عام (667هـ/ 1268م).
وما زال الحديث في “مصر الحلوة”.. لا ينتهي!
الأسقف العام
رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي