هياكل الأرمن على الحدود التركية السورية شاهد على أول محرقة في القرن العشرين
في 2009/2/15
يقول فيسك إن هذه الهياكل هي ما تبقى من خمسين ألفاً من الأرمن تم قتلهم في هذا المكان في سنة ١٩١٥ بربطهم سوياً.. وإطلاق النار على أحدهم ليسقط ويجر معه الباقين منحدرين من أعلى التل إلى النهر في السفح.كان هذا المكان ضمن المنطقة المعروفة باسم أرمينيا التركية التي ارتكبت فيها أولى المحارق أو الإبادات الدولية الأولى في القرن العشرين التي ذهب ضحيتها مليون ونصف مليون أرمني على يد الدولة العثمانية التركية.
في ١٥ سبتمبر ١٩١٥ أرسل وزير الداخلية التركي طلعت باشا تعليمات إلى الوالي التركي في حلب يقولون نصها: «لقد أعُلمتم سابقاً أن الحكومة.. قررت القضاء التام على جميع الأشخاص المعهودين الذين يعيشون في تركيا.. يجب إنهاء وجودهم.. ومهما كانت التدابير المتخذة مأساوية، ينبغي عدم الأخذ بعين الاعتبار العمر أو الجنس، أو أي وخز للضمير».
رافق فيسك والمصورة الصحافية إيزابيل من مدينة دير الزور السورية الأرمني داكسيان وابن أخيه هاجوب البالغ من العمر خمس سنوات.. وحكى داكسيان لفيسك كيف مات أهله الأرمن في تركيا عام ١٩١٥.
ويبدأ فيسك البحث في هذه المأساة والإبادة الجماعية للأرمن في تركيا سنة ١٩١٥ في بيروت زار في سنة ١٩٩٢ مأوي العميان الأرمني، حيث يوجد الناجون من هذه المذبحة ويعيشون مع ذكرياتهم الأليمة عنها.. هناك التقى زاكار بربريان البالغ من العمر ٨٩ عاماً ملتفاً في معطف قديم يحاول النظر إلى من يتحدث إليه بعينيه الكفيفتين وهو يحكي قصته:
«في سنة ١٩١٥ كنت في الثانية عشرة من عمري.. كنت أعيش في قرية بالاجيك الواقعة على نهر الفرات.. وكان لي أربعة أخوة وكان أبي حلاقاً.. في ذلك اليوم رأيت العسكر الأتراك يدخلون قريتنا، وهو مشهد لا أنساه أبداً. ولم أكن قد فقدت بصري بعد. أحرقوا السوق في بالاجيك، وتناثرت أحجار المباني في كل مكان، ورأيت كل ما حدث بعيني.. أخذوا الرجال الذين لم يعودوا أبدا وجرجروا النساء والصغار إلى السوق القديمة.. وأخذ الجنود يرفعون الصغار من كل الأعمار إلى أعلى ليرموه ليقع على الحجارة أمام الأمهات ويموت.
لا يهم عمر الصغير.. خمس أو ست أو ثماني سنوات.. وإذا لم يمت من السقطة فجروا رأسه برصاصة أو حجر. وفعلوا ذلك أمام أمهاتهم.. لم أسمع في حياتي مثل هذا الصراخ من الأمهات.. رأيت كل هذا من صالون الحلاقة وكان العساكر الأتراك بملابسهم الرسمية ومعهم الشرطة الحكومية، وبالطبع، لم تتمكن الأمهات من فعل شيء أثناء قتل أبنائهن سوى الصراخ والبكاء.. كان أحد الأولاد في مدرستي.. وجدوا دفتر علاماته في جيبه وتبين أنه نال أحسن العلامات المدرسية.. ففجروا رأسه، كما ربط أحد العساكر الأتراك قدمي أحد أصدقائي بذيل حصانه وجره خارج القرية حتى مات.. وكان هناك ضابط تركي تعود أن يأتي إلى حانوتنا للحلاقة. وقد حمى أخي الذي فر من الجيش قبل ذلك، لكنه في هذه المرة قال إن علينا أن نهرب. ولذلك غادرنا بالاجيك إلى قرية أسما.. وبقينا على قيد الحياة لأن والدي غيّر دينه إلى الإسلام.. ولكني أظن أن والدي ووالدتي مرضا بالكوليرا وماتا، وأنا أيضاً كنت مريضاً وكنت بين الحياة والموت.. واستمرت عمليات الترحيل ولكن الناس أعطوني طعاما فبقيت على قيد الحياة.
في آخر المطاف أخذوني إلى مأوى للأولاد اليتامي.. وأدخلوني الحمام وغسلوني مثل غيري بماء لا أدري ما هو ولكنه لم يكن ماء نظيفاً.. وصرنا كلنا عميانا.. لم نر شيئاً بعد ذلك الحمام.. كلنا.. وكنت أعتقد أنني سأسترد بصري.. ولكن لا فائدة.. وأعتقد أنني فقدت بصري.. ليس بسبب الحمام ومائه. ولكن لأن والدي غيّر دينه.. فانتقم الله مني».
يقول فيسك إن عام ١٩١٥ كان بالغ القسوة على الأرمن في أرمينيا التركية وفي الصحراء السورية وكانت السلطات بالغة القسوة حتى إن الناس من المسلمين ضحوا بأرواحهم لإنقاذ من يمكن إنقاذه من الأرمن الهالكين. وحكى كثير من الأرمن الذين التقاهم فيسك عن أفراد خالفوا القوانين الفاشية لحكامهم في القسطنطينية، وأووا الأرمن في بيوتهم وعاملوهم كأفراد من عائلاتهم.. ومن ذلك الوالي التركي لدير الزور على سعاد بك الذي أقام للصغار من الأرمن ملجأ.. وهو ما لم يعجب السلطات التركية فاستدعوه إلى القسطنطينية وعينوا بدلاً منه زكي بك الذي حول البلدة إلى معسكر اعتقال.
كانت الدولة التركية العثمانية عام ١٩١٥ في حالة حرب مع الحلفاء الغربيين حيث كانت الدولة العثمانية إحدى دول المحور.. وأدعت الحكومة أن الأرمن الذين يقيمون فيها طابور خامس يؤيد ويدعم أعداءها من الحلفاء.. خاصة أن جيش روسيا أحد الحلفاء كانت تضم في جيشها آنذاك مائتي ألف أرمني.
بعد انتصار تركيا على الحلفاء في مضيق الدردنيل.. أطبقت على الأرمن بكل عنف وسجل يوم ٢٤ أبريل ١٩١٥ احتفال الأرمن بذكرى الإبادة.. وهو اليوم الذي اعتقلت فيه السلطات التركية الشخصيات الأرمنية من المفكرين والزعماء والشخصيات المهمة وتم إعدامهم في القسطنطينية لتبدأ المذبحة الكبرى ضد الشعب الأرمني، وممن التقى بهم فيسك في مأوى الأرمن المكفوفين في بيروت نيفارت سرويان ابنة الواحدة وتسعين عاما من العمر والتي فقدت سمعها تقريبا حين حكت للصحافي كيف أن أباها الذي كان جنديا في الجيش التركي ارتدى بزته العسكرية حين بدأت المذبحة وصحب زوجته وأبناءه في قونية ووضعهم على متن قطار متجه إلى الجنوب بعيدا عن تركيا.. ولكن الأتراك اكتشفوا لعبته وتهريبه لأسرته وأعدموه فيما نجا أبناؤه.
وقصة أخرى تحكيها ما يراني كلوحتين وهي في الثمانين من العمر.. قالت إنها من قرية «مَشّ» وكان أبوها مانول طارديان وأخوها يعملان في الحقل ويزرعان الجاودار بعد ذوبان الثلوج في كل عام.. وجاء عام ١٩١٥ حين وصل الجنود الأتراك وجمعوا رجال القرية وكانوا نحو ألف رجل في أسطبل وفي اليوم الثاني أخذوهم، وقال الجنود إن الحكومة تحتاج إليهم.. واختفوا ولم يعد أحد منهم.. وقلقت أمها «خاتون» في اليوم الثاني.. وتوجهت مع بعض النسوة الآخريات إلى مكان قريب تتجمع عنده الأنهار وتمر تحت أحد الجسور.. وعلى الجسر رأت النساء الرجال مصطفين.. مئات منهم ومن جانبي الجسر اطلق الجنود الأتراك النار فسقطوا فوق بعضهم «كالقسن» وفق تعبير المرأة.. وتوجه الجنود للرجال القتلى وفتشوهم وأخذوا من جيوبهم ما بها وخلعوا منهم الملابس الجيدة ثم أخذوا القتلى من اليدين والقدمين وأخذوا يقذفونهم من أعلى الجسر إلى ملتقى الأنهار.. واستغرب هذا العمل طوال النهار والليل.
وعند مدخل حصن كيماخ ذبح الأكراد وكتيبة الخيالة التركية رقم ٨٦ أكثر من عشرين ألف امرأة وطفل.. وفي بتليس أغرق الأتراك ٩٠٠ امرأة في نهر دجلة وقرب قرية أرزنجان جرت مذبحة والقيت الجثث في نهر الفرات بحث سدت مجرى النهر وأجبرته على تغيير اتجاهه لمسافة مائة متر.
وتستكمل العجوز ما يراني قصتها من قرية مسن.. تقول:
«سافرنا أولا بعربات تجرها الثيران، ثم كان علينا أن نمشي على أقدامنا لعدة أسابيع، كان هناك آلاف مثلنا.. كنت أنا وأمي وأربع شقيقات وشقيقان طفلان هما درجيفان وفرياد.. استجدينا الطعام والماء وكان الطقس حارا.. مشينا في الربيع ولم نتوقف حتى عيد القديس يعقوب في ديسمبر.. كان عمري آنذاك ١٢ سنة عندما ماتت والدتي.. ذهبنا إلى سيفاس. ثم جاء الروس وجيش القيصر ووصلوا إلى قريتنا مسن وفجروا الجسر الذي مات عليه أبي.. حاولنا الرجوع إلى القرية لكن الروس هُزموا.. ومرضنا جميعا بالكوليرا.. أنا وأخوتي.. ماتوا جميعا ماعدا أختي أرزون وأنا.. وماتت أرزون.. فأخذوني إلى ملجأ للأيتام.. ولن تتصور كيف كانت حياتنا، ترك الأتراك قطاع الطريق يفعلون ما يريدون، وسُمح للأكراد باختطاف البنات الجميلات، وأذكر أنهم كانوا يضعونهن على ظهور الجياد وهن متدليات على السروج، كما أخذوا الأولاد.. وكنا ندفع للأتراك ثمن الماء».
يقول فيسك إن مذبحة الأرمن تخللتها مشاهد من الاغتصاب والنهب الجماعي على أيدي الأكراد.. وعلى ضفاف نهر الخابور.. بالقرب من تل مرقدة اقيمت مزادات لبيع الأرمنيات للأكراد والعرب. وتذكر النساء الناجيات أن الرجال المشترين كانوا يدفعون عشرين قرشا لشراء الفتاة العذراء وخمسة قروش لشراء الصبي أو المرأة المغتصبة.. أما النساء الأكبر سنا فقد تم دفعهن للنهر ليغرقن.
في عام ١٩٩٢ في قرية سورية تبعد عن الحدود العراقية ثلاثين كيلو مترا، التقى فيسك سيريوهي بابازيان المرأة الأرمنية ابنة الاثنتين والتسعين عاما، طويلة، نحيفة، نشيطة، تشع عيناها بالحيوية.. قالت إنها من قرية تاكيردا التي تقع على مسيرة ١٢ ساعة من اسطنبول على ظهر الحصان. كان عمرها ١٥ سنة حين جمع الأتراك الأرمن من بيوتهم في القرية ووضعوهم على ظهر سفينة قذرة في قونية ومنها إلى حلب.. وكان منها أمها وعمتها وأبوها وشقيقتان في معسكر الاعتقال في حلب ضربوهم وعذبوهم، وفيه ماتت أمها وعمتها بسبب المرض وكان الأتراك يأتون كل صباح ليأخذوا مئات الأرمن من المعسكر ويذهبون إلى الشمال.. وعلم أبوها أن من يذهبون يتم التخلص منهم.. فقام بكتابة أسماء بناته على معاصمهن بالأرمنية كي يتلقين إذا تفرقن.. بالوشم.. ولكن شاباً سورياً مسلماً رآها وأنقذها من معسكر الاعتقال فهربت معه وأسلمت وتزوجته، ولم تعرف ما حدث لشقيقتيها وأبيها إلا بعد ذلك بسنوات، وعلمت أنهم ذهبوا بصحبة الجنود الأتراك إلى تل مرقدة حيث تم ربط أيدي أبيها وشقيقتيها معاً ثم قتل أحدهم.. ولا تعلم من هو ليسقطوا من التل إلى نهر خابور مع مئات آخرين ماتوا من الأرمن في المكان، وحاولت بابا زيان العثور على ما يدل على شقيقتيها وأبيها ولم تعرف. وتساءلت وهي تنظر لفيسك الذي كان يسجل قصتها في أوراقه: «لا أدري، لماذا تكلف نفسك وتأتي إلى هنا لتسجل ما أقوله؟».
ويقول فيسك: «لقد غير نهر الخابور مجراه وابتعد نحو كيلو متر إلى الشرق خلال السنوات السبعين الماضية بعد المذبحة».
يقول فيسك إن حقول إبادة الأرمن تنتشر في الصحراء السورية، فعلى مسافة ثمانين كيلو مترا شرقي قرية شحادة وسط حقل نفط سوري حالياً.. وجد فيسك ومرافقه الأرمني واكسيان كهفا انهار جزء من مدخله.. ولكن فيسك ومرافقه انسلا إليه.. وعلى ضوء القداحات اكتشفا أنه يمتد نحو كيلو متر إلى الداخل.. وفيه حشد الأتراك نحو خمسة آلاف أرمني ثم أشعلوا النار عند مدخل الكهف بحيث يمتلئ بالدخان وهناك سعل الجميع ثم ماتوا اختناقا.. في هذا الكهف تم تنفيذ أول غرفة غاز جماعية في القرن العشرين لقتل الآلاف في وقت واحد.
قال فيسك:
«هناك متوازيات أخرى مع هذا فقد قال «أنور باشا» وزير الحربية التركي للسفير الأميركي في تركيا «مورجانتو» إنه يجري نقل الأرمن إلى «أماكن أخرى جديدة»، تماماً مثلما قال النازيون فيما بعد إن يهود أوروبا أرسلوا إلى الشرق لإعادة إسكانهم.. كما أضرم الأتراك النار في كنائس الأرمن مثلما فعل النازيون في المعابد اليهودية التي تحت السيطرة النازية، ومات الأرمن فيما أطلق عليه الأتراك «القوافل»، كما أُرسل اليهود الأوروبيون بـ «وسائل النقل» إلى معسكرات الموت.
وقد استخدم الأتراك قطارات الماشية زحيانا لنقل الأرمن إلى قبورهم الجماعية وقام الأكراد بدور الجلادين لحساب الأتراك.. مثلما قام الليتوانيون والأوكرانيون والكروات بدور الجلادين لحساب النازيين.. وأسس الأتراك منظمة اسمها «تشكيلات المخصوصة» لتنفيذ عمليات الإادة.. وقام هتلر بتأسيس «جماعات العمل الخاص» لتنفيذ عمليات الإبادة في ألمانيا النازية.
ويكتب فيسك خريطة ترحيل الأرمن من أماكن تواجدهم إلى أماكن إبادتهم وأغلبها في تل مرقدة شمال دير الزور السورية.. وانتقل بعضهم نفيا إلى فلسطين.
كان من بين الأرمن في تركيا الكثيرين من ذوي الثقافة العالية.. محامين وموظفين في الدولة ورجال أعمال وصحافيين.. وقد عرف العالم الكثير عن هذه المذبحة أول أن بدأت وكلفت الحكومة البريطانية النيكونت جيمس برايس والمؤرخ الشاب أرنولد تونيبي بإعداد تقرير عن أحداث الإبادة التركية ضد الأرمن في عام ١٩١٥.. وقد قاما بتقديمه، وإلى جانب هذا فقد وضعا مؤلفاً آخر في ٧٠٠ صفحة عن المشاهد التي رأياها بأعينهما في تركيا وأطلقا عليه: «معاملة الأرمن في الامبراطورية العثمانية ١٩١٥- ١٩١٦ وجاءت كثير من الشهادات التي تضمنها هذا الكتاب من المبشرين الأميركيين في تركيا ومن الديبلوماسيين الإيطاليين والهولنديين والسويديين واليونانيين والأميركيين والألمان، ومن السجلات السرمية التركية نفسها.
ومن بين الشهادات الأميركية ما كتبه ليزلي ديفيز القنصل الأميركي في هاربورت عن جولة له على ظهر حصان في أراضي الموت في أرمينيا حيث كتب أنه حول بحيرة «جولجوك» رأى بقايا جثث ما لا يقل عن ألف أرمني.. جثثاً متراكمة على الصخور أُسقطت من أعلى جبال المنطقة، وفي الماء وعلى الرمال.. وعلى سفوح التلال.. «كانت النساء ملقيات على ظهورهن مع تشويه بشع بحراب الشرطة.. وفي إحدى رحلاته اقترب ديفيز من امرأة تحتضر وقدم لها خبزا.. فصرخت وقالت إنها تريد الموت.. وفي قرية أخرى في المنطقة وجد ديفير أرمنيا حيا.. أنقذه وعرف أنه أستاذ جامعي.. وكتب هذا الأستاذ بعد ذلك كتابا عن «الألم والكرامة» مرثية، جاء فيها:
«ألا تستحق هذه الأجساد الميتة والعظام الجافة حفنة من تراب
حفنة من تراب.. على الأقل لهؤلاء.. الذين لا يطالب بهم أحد
نحن نكره تخيل أجساد أحبابنا
طعاماً للحشرات
وعيونهم الجميلة ملأى بالديدان
وخدودهم التي تستحق القبلات
محشوة بالعفن
وشفاهم الوردية
طعاماً للزواحف
إنهم مطروحون في الجبال
مهجورون، غير مدفونين
تهاجمهم الديدان والعقارب
عيونهم مفتوحة، وجوههم مرعبة
رائحتهم نتنة.. كرائحة السملخ
النساء، عاريات الصدور، والسيقان،
ألا توجد حفنة من تراب.. تغطي شرفهن؟
الهنا.. امنحنا حفنة التراب التي نطلبها
لأن البشر لا يمنحونها!!».
مأساة.. إبادة بشعة قام بها الأتراك ولكنها كانت المدرسة التي تعلم فيها النازيون
منقول