أهنئكم جميعًا بـ”عيد الميلاد” الذي يحتفل به مَسيحيُّو الشرق اليوم، متمنيًا لكم كل خير وسلام، ولبلادنا الحبيبة “مِصر” كل بركة وازدهار. والميلاد هو حدث فريد لم يتكرر، ولن يتكرر، على مر التاريخ والأزمان: فأن تلد عذراء طفلاً دون رجل هو حدث معجزيّ فائق؛ وقد تنبأ “إِشَعْياء النبيّ” عن ذٰلك الميلاد: “هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ».”؛ وحين تساءلت “السيدة العذراء”: “كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟”، أجابها الملاك المبشر: “اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللهِ.”. وقد أشار “القرآن” إلى ذٰلك الميلاد: ﴿إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ﴾.
“شجرة عيد الميلاد”
ومن أهم العادات الشائعة في “عيد الميلاد” في جميع بلاد العالم تزيين “شجرة عيد الميلاد”. وتُعد “ألمانيا” أول دولة بدأت رسميًّا وضع “شجرة الميلاد” عام 1539م بـ”كاتدرائية استراسبورج”. أمّا عن أصل هٰذه الشجرة، فقد تعددت القصص: فتذكر إحدى الموسوعات أن بـ”ألمانيا” في القرن الثامن الميلاديّ مر أحد المبشرين بالقبائل التي كانت تعيش هناك، وشاهد حفلاً تقيمه لإلٰه الغابات والرعد لديها “ثور”، وكانوا قد ربطوا طفلاً على شجرة استعدادًا لتقديمه ضحيةً لذٰلك الإلٰه. فأنقذ ذٰلك المبشر الطفل من الموت، ووعظهم عن الله إلٰه المحبة، وقطع تلك الشجرة، فرأى نبتة “شجرة التنوب” ـ شجرة الكريسماس ـ فصارت رمزًا إلى الميلاد.
وتذكر قصة أخرى أن في إحدى ليالي “عيد الميلاد”، التقى حطَّاب فقير صبيًّا تائهًا جائعًا؛ فأشفق عليه وقدَّم له الطعام والمبيت. وفي الصباح، لم يجد الحطاب الصبيّ، لٰكنه وجد شجرة جميلة تتلألأ خارج بيته، كأنها قد أُعدت له مكافأةً على كرمه وطيبته، وصارت رمزًا إلى العطاء في “عيد الميلاد”.
وقصة ثالثة مستقاة من مسرحية “الفردَوس” التي كانت تُعرض كل عام في ليلة “عيد الميلاد” في القرون الوسطى، وتهدُف إلى تقديم دُروس “الكتاب المقدس” في “أوروبا”. وكان عرض المسرحية يحتاج إلى شجرة تُفاح وهو ما لم يكُن ممكنًا في الشتاء. فتغيرت إلى شجرة خضرتها دائمة، مع تعليق التُّفاح عليها، وهٰكذا صارت إحدى عادات “عيد الميلاد”.
وفي البداية، زُينت أشجار “عيد الميلاد” بالتفاح الأحمر والورود والأشرطة الجميلة الملونة، وعام 1820م أضيفت إليها الأنوار بعد اختراع “توماس إديسون” للمصباح، وأُضيئت أول شـجرة عيد الميلاد علي يد “إدوارد ﭼونسون”.
وتحمل “شجرة الميلاد” عددًا من الرموز:
• تشير إلى “شجرة الحياة” التي في وسط الجنة: “وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلٰهُ مِنَ ٱلْأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلْأَكْلِ، وَشَجَرَةَ ٱلْحَيَاةِ فِي وَسَطِ ٱلْجَنَّةِ …”، التي صارت في “العهد الجديد” رمزًا للسيد المسيح .
• ترمز إلى “الحياة” والعطاء لما تحمِله من ثمار، وهي تظل خضراء طوال العام ـ من نبات السَّرْو غالبًا؛ وبذٰلك تُعد رمزًا للخلود.
• والأشجار دائمة النمو؛ فهي بذٰلك إشارة إلى المؤمنين النامين في إيمانهم وفضائلهم من محبة وعطاء وحكمة وترفق و… إلخ.
• أمّا أوراقها المتَّجهة إلى أعلى، فهي رمز إلى الصلوات التي ترفع نحو السماء.
• وتُعد بأنوارها المزينة لها إشارة إلى “العُلَّيقة المتقدة” التي رآها “موسى النبيّ” في البرّية والتي ترمز بدورها إلى الميلاد: “وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ. فَنَظَرَ وَإِذَا ٱلْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِٱلنَّارِ، وَٱلْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ.”.
• كذٰلك تشير الأنوار إلى السيد المسيح نور العالم: “أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ”؛ ولذا فالمؤمن الحقيقيّ يصير نورًا للعالم كقول السيد المسيح: “أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ.”.
• أمّا النَّجم الذي يعلو الشجرة، فهو إشارة إلى النَّجم الذي تبِعه حكماء المشرق “المجوس”، وأرشدهم حتى وصلوا إلى مكان الميلاد.
• والجرس الذي يوضع عليها هو إعلان وبشارة بالميلاد المفرح.
• وتعلَّق عصا عليها، تُنسب إلى “بابا نويل”، ترمز إلى عصا الراعي الذي يدافع بها عن خرافه وقت الخطر، ويجذب بها الضالّ حين يشرُد.
مغارة الميلاد
أيضًا من مشاهد الاحتفال في “عيد الميلاد” نموذج مجسم لـ”مغارة الميلاد”، يجتمع فيه وليد المذود وأمه “السيدة العذراء” و”القديس يوسف النجار”، ومجموعتان من البشر استجابتا لرسالة السماء التي أعلنت الميلاد: أُولاهما مجموعة الرعاة الساهرين على حراسة رعيتهم في مدينة “بيت لحم”، الذين ظهر لهم ملاك الرب بغتةً وبشرهم بالمولود العجيب قائلاً: “لَا تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ.”، وقدم لهم العلامة: “تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ”؛ فأسرعوا إلى مغارة الميلاد حيث وجدوا “العائلة المقدسة”: “فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَٱلطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي ٱلْمِذْوَدِ. فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا ٱلصَّبِيِّ. وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ ٱلرُّعَاةِ.”.
أمّا المجموعة الثانية، فهي من حكماء المشرق “المجوس” الذين أتَوا في رحلة طويلة متتبعين ذٰلك النَّجم العجيب. وكلمة “مجوس” جاءت من اللفظة البابلية “ماجو” التي تعني “الحكيم” أو “العالم بالفلك”، وتعني أيضًا “المتأمل” أو “المتبصر”؛ وذٰلك حكمة “المجوس” وعلمهم. ويذكر “هيرودُت” عن “المجوس” أنهم حكماء من المشرق يتبعون الديانة الزَِّرادَشْتية ويخدُِمونها، كما ذكر عنهم أنهم من إحدى قبائل “مادي”، ويُشتهرون بمعرفتهم بعلم الفلك والأجرام السمائية؛ وقد ورد ذكرهم في “الإنجيل” بمعنى “حكماء”: “وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ٱلْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ، قَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ».”.
وقد اتفقت أغلب الآراء على أن “المجوس” الذين قدِموا إلى “أورُشليم” هم ثلاثة رؤساء تصطحبهم حاشية كبيرة: وقد قيل إن أحدهم من نسل “سام”، والثاني من نسل “يافَث”، والثالث من نسل “حام” ـ أبناء “نوح” الثلاثة الذين تفرعت منهم جميع قبائل الأرض، في إشارة إلى أن ميلاد السيد المسيح كان للعالم بأسره. أمّا أسماؤهم، فقد تعددت فيها الآراء ولم يُتفق عليها. وفي المغارة، نجد نماذج للهدايا التي قدمها “المجوس” لوليد المذود: “وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا ٱلصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا.”. ويظن بعضٌ أن “المجوس” عرَفوا بميلاد “السيد المسيح” من زعيمهم “زَِرادَشْت” الذي أعلم “الفرس” بميلاده قائلاً إن: “في آخر الزمان «بكرًا» تحبَل بجنين من غير أن يمَسها رجل، وعند ولادته يظهر كوكب يضيء بالنهار، ويُرى في وسطه صورة صبية عذراء. وأنتم يا أولادي، قبل كل الأمم تحُسون بظهوره؛ فإذا شاهدتم الكوكب، فامضوا حيث يهديكم، واسجدوا لذٰلك المولود، وقرّبوا قرابينكم فهو «الكلمة» مقِيم السماء.”؛ ويظن بعضٌ أن “زَِرادَشْت” علِم مسبقًا بالميلاد من نبوءة “بَلْعام بن باعور” الواردة بـ”الكتاب”: “أَرَاهُ وَلٰكِنْ لَيْسَ ٱلآنَ. أُبْصِرُهُ وَلٰكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ …”.
ونشاهد في المغارة أيضًا الملائكة التي أنشدت: “ٱلْمَجْدُ لهِِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِٱلنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ.”. كل عام وجميعكم بخير.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي