“في كل المناسبات أنظر إليك يا أخي المواطن فأرى نفسي كأنني أنظر في مرآة”؛ هٰكذا قال مثلث الرحمات البابا الأنبا شنوده الثالث. فهٰذا هو جوهر الوِحدة الوطنية: انعكاس متبادَل في تفاعل وحب بين متساويَين ومتماثلَين ومتناظرَين في الوطن والمواطنة.
ومن أجل تعزيز قوة الوِحدة الوطنية، لا بد من توحيد الهدف الوطنيّ وإن تعددت وسائل بلوغه؛ وهنا يحضُرني أيضًا قول لقداسته: “يكون لدى جميع المواطنين هدف واحد وفكر واحد؛ فمن الممكن أن تتعدَّد الوسائل المؤدية إلى الهدف، ولكنْ وِحدة الهدف يجب أن تظل قائمة”.
الوِحدة الوطنيــة المِصرية
الوِحدة الوطنية المِصرية قائمة وضاربة في جذور التاريخ حين وحَّد “الملك مينا” قطرَي مِصر: الصَّعيد والدلتا، تحت حكم أسرة فرعونية واحدة. وهٰكذا سرت تلك الوِحدة في دماء المِصريِّين يتوارثونها جيلاً بعد جيل كأغلى شيء يملِكونه وأعز ما يحرصون عليه.
ولا أنسى عندما حل شبح عدو الوِحدة الوطنية الأول “الإرهاب” بمِصر؛ أن وقفت كل القيادات الفكرية وكل الرُّموز السياسية وكل أصحاب الأقلام الكبيرة ضده؛ كظاهرة غريبة في أرض الكنانة؛ لا يوافق عليها لا رجل الدين ولا أيّ عاقل أو صاحب فكر؛ فالجميع مهدد من ويلات هٰذا الإرهاب.
والإرهاب دائمًا ما يبدأ بالتطرف؛ فهو بيئة الإرهاب الصالحة لنموه وانتشاره. ولا أجد أجمل من كلمات البابا الأنبا شنوده الثالث في تحليله الدقيق لعمق الفكر التطرفيّ وتبريراته: “حين يقال للمتطرف: ما رأيك في الدُّستور؟ يقول: أنا لا أومن بالدُّستور؛ وحين يُسأل: ما رأيك في البرلمان؟ يُجيب: لا أومن بالبرلمان؛ ثم: ما رأيك في الديمُقراطية؟ فيقول: لا أومن بالديمُقراطية؛ وحين يُسأل: لماذا؟ يكون رده: بالدُّستور والبرلمان والديمُقراطية يحكم الشعب نفسه بنفسه، وهٰذا خطأ وضلال! لأن الله هو من يجب أن يحكم الشعب!! ولٰكن: كيف يحكم اللَّه؟ هل يُرسِل إلى الناس أنبياء وملائكة؟!! بل إنه يحكمهم عن طريق قادة الرأي والفكر … أو يقول أحيانًا: يحكمنا اللَّه عن طريق كتاب اللَّه. ولٰكن: مَن يفسر كتاب اللَّه؟!”.
إن غاية هؤلاء المتطرِّفين لا أن يشقوا الصف المِصريّ الواحد في التعامل بين الناس فقط، وإنما أيضًا إحداث انقلاب في البلد على كل المستويات: في القانون، والدُّستور، والتشريع، والبرلمان، وفي كل شيء. وماذا يَحُِلّون مَحَِلّ ذٰلك؟ لا أحد يعرِف!!
الصلة بين أبناء الوطن الواحد:
من بين المبادرات التي كانت ناجحة جدًّا في تقوية أواصر الصلة مع إخوتنا المسلمين مآدِب الإفطار الرمضانية التي كان صاحب المبادرة الأولى لها قداسة البابا شنوده الثالث؛ فكان يُعدها في رمضان داخل البطريركية حيث جمعَت المأدُِبة الأولى قرابة 150 من القيادات و500 من المدعوِّين؛ حتى إن القاعة الكبيرة المخصصة لذٰلك صارت غير كافية فأعد قداسته قاعة أخرى تتسع لكثيرين.
ثم من تلك المبادرة بدأ انتشار مثل هٰذه المأدُِبة في كنائس القاهرة، ثم إلى كل المحافظات، وأصبحت تقليدًا وطنيًّا يحرِص على حضوره الجميع.
ـ وأذكر أن هٰذه الحفلات الرمضانية كان يحضُرها كل قادة البلد بلا استثناء، وكل رموزه.
وخلال تلك المآدِب بالكاتدرائية أو الكنائس، كان الجميع يتبادل عبارات المودة والمحبة، مما يَزيد بلا شك أواصر الأُلفة والثقة لدى باقي أفراد الشعب.
أمَّا المبادرة الثانية، فهي المودة الكبيرة الصادقة بين قداسته والعلماء المسلمين:
ـ فضيلة المرحوم الشيخ مُحمد سيد طنطاوي شيخ جامع الأزهر السابق. وقد نشأت تلك المحبة بينهما منذ أن كان يعمل فضيلته في منصب مفتي الديار المِصرية، ثم تنامت وتعاظمت وترسخت حتى إن الاثنين صارا يُدعَيان سويًّا إلى ندوات عديدة، ليتكلما فيها جنبًا إلى جنب بروح المحبة.
ـ ولا أنسى أيضًا تلك الصداقة الرائعة التي كانت تربُِط بين قداسته وبين فضيلة وزير الأوقاف الأسبق أ. د. محمود حمدي زقزوق ـ حالياً الأمين العام لبيت العائلة المِصرية ـ ومحاولتهما معًا تكوين لجنة مشتركة مناصفةً بين وَزارة الأوقاف والكنيسة القبطية لحل مشكلة الأوقاف. وقد نتج من ذٰلك أثر طيب في حل مشكلات كثيرة بروح السماحة والمحبة التي أظهرهما أ. د. زقزوق آنذاك.
ـ كذٰلك فإن مقالات قداسته التي كانت تُنشر له في الصحُف العامة أوثقت الرابطة القوية بيننا وبين إخوتنا المسلمين؛ فبدأها أولاً بنشر سلسلة من المقالات الأسبوعية في جريدة الجمهورية ابتداءً من أواخر نوڤمبر سنة 1971م، ثم في مجلة الشباب، وفي مجلة أكتوبر، وفي أخبار اليوم والأهرام.
ـ كذٰلك أجرى قداسته أحاديث صحفية كثيرة ساهمت في زيادة الروابط الفكرية بيننا وبين إخوتنا المسلمين.
ـ وأُضيف أيضًا إلى كل ذٰلك رِحلات قداسته إلى الخارج والدُّول العربية. وأذكر من بينها رحلة لُبنان الشقيق حيث التقى قداسته هناك قرابة 70 من كبار رجال الدين الإسلاميّ؛ أذكر من بينهم: مفتي السنة، وشيخ عُقُل الدُّروز، وأئمة الشيعة، ورجالاً كبارًا آخرين. وقد صادق قداسته “الشيخ محمد مهدي شمس الدين”.
ـ ولا أنسى كلمات قداسته الخالدة: “إن العَلاقات الأخوية الطيبة بيننا وبين إخوتنا المسلمين ناتجة من موقفنا الموحَّد تجاه الوضع السياسيّ العربيّ، والموقف في الشرق الأوسط. والحق إنني قد شعُرتُ بكثير من المودة الخالصة من قِبل إخوتنا المسلمين”.
ـ فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي كان تجمْعه والبابا الأنبا شنوده الثالث محبة كبيرة. وقد زار فضيلته البابا مرات عديدة، وقدَّمه في محاضرات ألقاها قداسته في جمعية الاقتصاد السياسيّ عن “العدالة الاجتماعية في المسيحية”. وقد ذكر قداسته أن فضيلة الشيخ الباقوري طلب منه أن يغير اسمها لتكون عن “العدالة الاجتماعية في كل الأديان عمومًا”، وأن فضيلته وافق على كل ما ورد فيها إسلاميًّا.
ـ الشيخ المفتي محمد خاطر عَلاقة محبة وكان شخصًا بالغ اللطف.
ـ وأول شيخ من الأزهر اتصل قداسته به عندما صار بطريركًا كان هو “فضيلة الشيخ الغمامي”، الذي كانت له عَلاقة طيبة بقداسته.
ـ كذٰلك كان قداسته وفضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق يرتبطان بعَلاقة متميِّزة، وكان فضيلته هو أوَّل من زار قداسته في الكاتدرائية من شيوخ الأزهر، وكان يُشارك مآدِب رمضان باستمرار حتى وفاته.
ـ وجاء خلفه فضيلة الشيخ المرحوم محمد سيد طنطاوي مفتي الديار المِصرية الأسبق الذي تطوَّرت العَلاقة بينهما إلى أعلى المستويات.
ـ ثم علاقته الطيبة بفضيلة الشيخ أ. د. علي جمعه مفتي الديار المِصرية السابق.
ـ ومن شيوخ الإسلام الذين عاصرهم قداسته وكان بينهما مودة فضيلة الشيخ بيصار.
ـ كذلك التقى قداستُه وفضيلة الشيخ مُحمد متولي الشعراوي. وحين كان مريضًا يعالَج في لندن، أرسل إليه أحد الآباء الأساقفة واثنين من الآباء الكهنة للاطمئنان على صحته. ولمّا عاد فضيلته إلى مِصر قام بزيارة قداسته بالكاتدرائية، ثم زاره قداسته في المستشفى، ونشأت بينهما مودة حرِص كل منهما على استمرارها. ومن بين ما لا أستطيع نسيانه من أحاديث قداسته عن لقاءاتهما: “تقابلنا في أحد الأيام في جِلسة أدبية دارت عن الشعر والأدب واستمرت أكثر من الساعة ونصف الساعة. كان ذٰلك في يوم جنازة “إبراهيم باشا فرج”، وقد حضر فضيلة الشيخ الشعراوي الجنازة، ومرّ بمكتبي وسُرّ من الحديث الذي دار بيننا، وطلب مني إهداءه ديوان شعري “انطلاق الروح”، ويستكمل عن لقاء آخر جمعهما: “قال لي: لقد قرأتُ ديوان شعرك بكامله، فما هي آخِر قصيدة كتبتَها؟ قلت له: آخِر قصيدة لم أكتُبها بعد! لعلك تقصد: أحدث قصيدة! فقال لي: نعم، أحدث قصيدة. فأسمعتُه قصيدة حديثة من قصائدي وقد شمَِلَنا جو لطيف من المودة، وبقِيَت عَلاقتنا حميمة وطيبة إلى يوم وفاته”.
علاقــة مُتميِّزة:
ولا يفوتني علاقة قداسته المتميزة جدًّا بفضيلة الإمام الأكبر أ. د. أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر؛ فقد بادر برسالة تهنئة عند اختيار فضيلته لمشيخة الأزهر كما ذهب إلى مقر المشيخة لتهنئته مرة أخرى.
ومن الجدير بالذِّكر أنه حين عرض فضيلة الإمام الأكبر على قداسته فكرة إنشاء بيت العائلة المِصرية في يناير 2011م، بعد أحداث كنيسة العذراء سيدة النجاة بالعراق وكنيسة القديسين بالإسكندرية، وافق وعضَّد وأيد فكرة الإمام الأكبر، وحضر بنفسه بعضًا من جلساته التمهيدية والتأسيسية في مشيخة الأزهر. وكان آخر تلك اللقاءات الخميس الـ12 من يناير 2012م.
وكان قداسة البابا وفضيلة الإمام الأكبر على اتصال دائم متبادَل وبخاصة في أسفار قداسته العلاجية ليطمئن كل منهما على الآخر.
وهٰكذا تعلمنا خبرات حية معاشة من المتنيح البابا الأنبا شنوده الثالث الذي أطلق عليه أ. د. مصطفى الفقي “رمانة الميزان”.
الأسقف العام، رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ، مساعد الأمين العام لبيت العائلة المصرية