كل عام وجميعكم بخير، في “عيد الميلاد” المجيد الذي يحتفل به مَسيحيُّو الشرق، في السابع من يناير (التاسع والعشرين من كيهك بحسب التقويم القبطيّ). نطلب إلى الله أن يمنح “مِصر” والعالم السلام والهدوء، وأن ينقذ البشرية من الوباء، ويمنح المصابين الشفاء.
لا شك أن العالم عام 2020م، قد مر به عديد من الصعاب والضغوط ـ وما يزال ـ مع انتشار ڤيروس “كورونا” المعروف باسم “Covid-19”؛ فكم من بشر عانوا المرض! وكم من بشر فقدوا أحباءهم بسببه! إلى جانب ذٰلك: أزمات اقتصادية تمر بكثيرين فقدوا وظائفهم أو تقلصت ساعات عملهم فتأثروا هم وأسرهم ماديًّا بالسلب، وتباعد اجتماعيّ أثر كثيرًا في مدى الترابط الأسريّ ـ فنرى مثلًا أحفادًا لم يعودوا يتمتعون بأحضان أجدادهم ومظاهر محبتهم وحنانهم من أجل الحفاظ على صحتهم، ودُور عبادة أُغلقت وصلوات وخِدمات توقفت فترات طويلة؛ ولذا ما أحوجنا اليوم أن نتذكر، وبالأخص في الأيام الصعبة التي تمر بنا، رسالة الميلاد التي أعلنتها الملائكة للرعاة: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة”.
ينبغي أن نُدرك أن ميلاد السيد المسيح لم يأتِ في زمن يختلف كثيرًا عما نعيشه اليوم من قساوة وألم؛ الاختلاف فقط في نوع الآلام التي يعانيها البشر. فقد جاء السيد المسيح في زمن كان الرومان القوة المسيطرة في العالم. لقد بدأت الإمبراطورية الرومانية مع إعلان “يوليوس قيصر” نفسه إمبراطورًا على “روما”، ومن بعده صار “أوكتاڤيوس” قيصر “روما”، ولُقب “أُغسطس” وهو اللقب الخاص بالآلهة، فأضيف اسمه إلى أسماء الآلهة الرسمية لـ”روما”: فيُحتفل بميلاده وتقدم له طقوس العبادة، وتوجَّه إليه الصلوات والترانيم، والهدايا والقرابين في عيد رأس السنة!! وقد غدت عبادة “أُغسطس” منتشرة في الولايات الرومانية. أمّا عن أحوال “قيصر”، فقد أطلق العِنان لشهواته ومُجونه، وأخذ يُريق الدماء من دون رحمة!! وتزايد الفساد والانحطاط الخُلقيّ، حتى إن العَلاقات غير الشرعية أضحت هي السائدة!! وفي ذٰلك الزمان، وُلد “السيد المسيح” بـ”بيت لحم”، بـ”فِلَسطين” الواقعة تحت سطوة الدولة الرومانية، وحُكمها الذي كان اليهود يئنون تحت وِطأته. أمّا “فِلَسطين” فكان يحكمها “هيرودُس الكبير”، ذو الشخصية العاتية القاسية، الذي تلطخت يداه بدماء أفراد عائلته وأصدقائه وغيرهم من رجالات الدولة وأفراد الشعب، والذي أصدر مرسومًا بقتل جميع أطفال “بيت لحم” وما حولها، الذكور، من ابن سنتين فما دون؛ كي يضمن قتل “السيد المسيح” فكان العصر الرومانيّ فاحش القساوة والطغيان؛ فقد ذكر المؤرخ “George Sarton”: “لم يكُن العصر الذي وُلد فيه المسيح عصرًا ذهبيًّا، بل عصر دم ودموع، عصر قسوة ووحشية.”.
أيضًا اتسم زمان السيد المسيح بتعدد الفلسفات التي اعتُقد أنها تحمل الحكمة (كلمة “فلسفة” مشتقة من اللفظة اليونانية “فيلوسوفيا”: وتعني “محبة الحكمة”)، فكانت الفلسفات الرومانية، والرُّواقية، والأبيكورية، والشكية البيرونية. وهٰكذا جاء “السيد المسيح” في عصر يمتلئ بالأفكار الفلسفية المتضاربة والمتناقضة: فمنها ما يدعو إلى ارتقاء العقل فوق النفس والروح، وأخرى تنادي باللذة وإنكار وجود الله، وثالثة تتجه نحو الشك في كل أمور الحياة؛ وفوق تلك كلها فساد أخلاقيّ، وعبادات وثنية متفاقمة تقدم الذبائح الآدمية إرضاءً لآلهتها
أمّا عن أحوال اليهود آنذاك، فكانت لا تقل بؤسًا، سواء على مستوى الصراعات السياسية، أو النواحي الدينية والروحية التي انحدرت سوءًا؛ فقد تعددت طوائفهم من فَريسيين وكتبة وصَدُّوقيين وأسينيين. وهٰكذا انتشرت في عصر السيد المسيح طوائف متعددة مختلفة العقائد؛ لترسُِم خطوطًا من التيه لشعب شتَّته الأحوال السياسية الطاحنة والدماء المُراقة، واعتصرته ظروف اقتصادية قاسية. إنه زمان عرَف القساوة في أبشع مشاهدها، منتظرًا أن يأتي “السيد المسيح”.
وفي ذٰلك الزمان، أُعلنت رسالة السماء في “الميلاد”: المجد لله، السلام، الفرح. واليوم، يُعوزنا أن نعي الرسالة عينها.
المجد لله
في كل يوم من حياة الإنسان، عليه أن يمجد الله: بالكلمات، وبالأعمال. نمجد الله بالكلمات، حين نعترف بأعماله العظيمة في حياتنا وهباته وخيره الذي لا يُحد، كما نمجده أيضًا بتقديم الشكر له على ما صنع لنا؛ فهو الذي عبر بنا من عام إلى عام، وهو الذي حفِظنا حتى اليوم. وفي “الميلاد” المجيد، جاء السيد المسيح ليقدم لنا الحياة الفُضلى: “أتيتُ لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل”؛ لذا علينا أن نحيا في الميلاد حياة الشكر، ممجدين الله. ونمجد الله أيضًا بأعمالنا، بالخدمة والعطاء، مهتمين بكل إنسان، متمثلين بالسيد المسيح الذي وُلد في مذود للبقر أقل الأماكن وأحقرها شأنا؛ ليُعلن أنه جاء من أجل كل إنسان مهما كانت فئته أو مكانته، فقبِل كل إنسان إليه، خاصةً الفقراء والمعوزين والمحتاجين والمنبوذين ومن لا أحد يذكرهم؛ حتى في إعلان ميلاده: أعلنته السماء لقوم رعاة كما لمجوس علماء.
السلام
السلام رسالة الميلاد الثانية، التي تذكّر كل أحد بأن السيد قد جاء ليصنع سلامًا على الأرض بمصالحة السمائيِّين والأرضيِّين، مصالحة ينالها الإنسان بتوبته وعودته إلى الله. لقد مرت بالعالم كله ضيقات الوبأ التي أعلنت مدى ضعف الإنسان أمام ڤيروس لا يُرى بالعين، فحريّ به أن يرتد عن طرق الشر ويقدم التوبة لله. عندما يصطلح الإنسان مع الله، يصطلح مع نفسه، ويعرِف معنى الثقة بالله؛ فتهدأ نفسه وتعرِف طريق السلام.
الفرح
ربما بعض الناس يتعجبون من رسالة الفرح، لٰكن كلما شكرنا الله ووثِقنا بجميع ترتيباته في كل أمور الحياة تذوقنا معنى الفرح الحقيقيّ؛ إنه فرح بالله نفسه وهو أعظم فرح، ولا أحد يستطيع أن ينتزعه منا، إذ قال السيد: “سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزِع أحد فرحكم منكم.”. فلنفرح في “الميلاد” بعناية الله بنا فلنفرح بالسلام الموهوب من الله لنا! فلنفرح بمد يد العون لكل إنسان تمكنا من رسم ابتسامة على شفتيه وفي قلبه! فلنفرح لأن الله سمح لنا أن نرى عامًا جديدًا، ونحيا ذكرى الميلاد، مقدمًا لنا فرصة جديدة للعودة إليه! لنفرح لأن ما يمر بنا من تجارب وآلام يجعل نفوسنا ثابتة النظر صوب الحياة الحقيقة التي سوف نحياها إلى الأبد. كل عام وجميعكم بخير.