أهنئكم جميعـًا ببَدء العام الجديد وعيد الميلاد المجيد، متمنيـًا أن يكون عام جديد تظلله السعادة ويملؤه الخير للمِصريِّين جميعـًا وللعالم أجمع، كما أتمنى لكم عيدًا مباركـًا؛ فمِصر هي البلد الوحيد الذي لجأت إليه العائلة المقدسة فتباركت أرضها وشعبها.
ومع الاحتفال بعيد الميلاد، نتذكر أنشودة الملائكة: “«المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة».”؛ أيْ إن ميلاد السيد المسيح حمل رسائل من السماء إلى الأرض وسكانها.
رسائل في عيد الميلاد
رسالة الميلاد رسالة تواضع
وأولى رسائل عيد الميلاد هي رسالة التواضع. إن تقييمات الله وأفكاره وأحكامه تختلف كثيرًا عن تلك التي للبشر. فالله يهتم بمحبة الإنسان، وبساطته، ونقائه، وتواضعه، لا بمركزه، أو قدراته، أو سلطته، أو ماله. إنه يحب المتواضعين ويرفعهم، في حين أنه يرفض ويقاوم كل متشامخ قلب متكبر؛ فيقول الكتاب في رسالة مار “بطرس الرسول” الأولى: “… وتسربلوا بالتواضع، لأن: «الله يقاوم المستكبرين، وأمّا المتواضعون فيُعطيهم نعمة».”. وقد ظهر هٰذا جليـًّا في قصة الميلاد؛ فبنظرة سريعة على شخصيات الميلاد وأحداثه، نجد أن “السيدة العذراء مريم”، التي عاشت حياة البساطة والتواضع من ميلادها وفي أثناء حياتها، هي التي اختارها الله من جميع نساء العالم لتكون أمـًّا للسيد المسيح. لقد بدأت حياتها بالخدمة في الهيكل، ثم تركته لتعيش في رعاية رجل شيخ، نجار بسيط، كان بارًّا أمام الله، هو “يوسُِف النجار”؛ لذا استؤمن من الله على الاهتمام بـ”السيدة العذراء” والطفل. وكانت حياتها أنشودة تواضع وخضوع دائم أمام الله، حتى إن العائلة المقدسة صارت بركة لكل من يلتقيها، في كل مكان تطؤه أقدامها؛ فكل كرامة يهبها الله لا بداية لها إلا عن طريق التواضع؛ كما ذكر “سليمان الحكيم” في الأمثال: “… قبل الكرامة التواضع.”.
أمّا الاحتفال بهٰذا الميلاد العجيب، فكان من السمائيِّين، الملائكة الذين شاركوا الأرضيِّين الرعاة؛ ليصير احتفالـًا بين السماء والأرض، استحق فيه الرعاة المتواضعون الساهرون على رعيتهم أن يبشروا بالميلاد، فأسرعوا لرؤية ذٰلك الوليد؛ فيذكر الكتاب: “وكان في تلك الكورة رعاةٌ، مُتَبَدِّين، يحرسون حراسات الليل على رعيتهم. وإذا ملاك الرب وقف بهم، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفـًا عظيمـًا. فقال لهم الملاك: «لا تخافوا! فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: إنه وُلد لكم اليوم في مدينة داوُد مخلص هو المسيح الرب. وهٰذه لكم العلامة: تجدون طفلا مُقَمَّطـًا مُضجَعـًا في مذود». وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماويّ، مسبحين الله …”. لقد اختار الله أن يبشر الرعاة البسطاء بميلاد السيد المسيح، في حين لم ينَل هٰذه الكرامة آخرون. وقد أسرع الرعاة ليلتقوا وليد المذود، في بساطة وفرح عظيم؛ فنالوا بركات لم ينَلها ملوك وعظماء.
أيضـًا التقى العائلة المقدسة في زمان الميلاد المجوس القادمون من المشرق؛ فمع مكانتهم وعلمهم وعظمتهم، إلا أن التواضع كان يملأ قلوبهم؛ فهم قد احتملوا مشقة السفر وعناءه حتى يصلوا إلى حيث وُلد السيد المسيح، وفي أعماقهم محبة عميقة واشتياق أن يرَوا الطفل المولود، وأن يقدموا إليه هداياهم. لذٰلك، قادهم الله بنَجم عجيب ظهر لهم، وهو يسير بهم حتى وصلوا إلى حيث الصبيّ، “فلما رأَوا النجم فرِحوا فرحـًا عظيمـًا جدًّا.”، وحين رأَوا الطفل، قدَّموا له هداياهم، ثم عادوا إلى بلادهم.
ما أسعد المتواضعين! فإنهم في قلب الله، ويحملونه في أعماقهم؛ يقول أحد الآباء: “حقًا، يا إخوة، طوبى لمن كان له اتضاع حقيقي!”؛ فالتواضع هو الذي رفع: “إبراهيم” أبا الآباء، ويوسُِف الصدّيق، وموسى النبيّ. وكل من عرف الاتضاع عرف الطريق إلى الله.
وفي المقابل، يقدِّم عيد الميلاد رسالة إلى كل متعظم قلب ومتكبر؛ ومن أمثالهم رؤساء الكهنة وكتبة الشعب التي كانت لهم حياة من العظمة والتعالي؛ حتى قيل عن الكتبة إنهم يحبون: المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس: سيدي، سيدي! في حين مكرهة الله هي القلب المتعالي والمرتفع! فمن يحاول أن يجعل نفسه مرتفعـًا عن الجميع، فإنه يسير الطريق نحو الانكسار والسقوط، كما ذكر “سليمان الحكيم” في الأمثال: “قبل الكَسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح.”. وكذٰلك “هيرودُس” الملك، الذي كان يحكم اليهودية من قِبل الإمبراطورية الرومانية، كان إنسانـًا متعظمـًا جدًّا، يخشى فقدان مركزه وسلطته، مستعدًّا لإهلاك أيّ إنسان في سبيل الحفاظ على مكانه حتى إن كان طفلـًا!! فحين علِم بميلاد السيد المسيح، أعد عُدته لإهلاك الصبيّ، وأرسل وقتل جميع أطفال “بيت لحم”!! ورسالة الميلاد هنا هي تحذير إلى كل إنسان متكبر أن الله ضد أعماله، بل إنه “يقاوم المستكبرين”؛ وهي دعوة للنفس لمراجعة كل أعمالها حتى تقيِّم وتعدّل ما بها من نقائص.
رسالة الميلاد رسالة المحبة والسلام
أيضـًا يقدِّم عيد الميلاد رسالة سلام إلى كل البشر: “وعلى الأرض السلام”. نعم، فالسيد المسيح جاء إلى الإنسانية حاملـًا رسالة الحب والسلام؛ فالحب والسلام يرتبِطان أحدهما بالآخر؛ إذ عندما تزداد المحبة يعم معها السلام بين البشر. وقد علَّم السيد المسيح الشعب، وطالما أوصى تلاميذه، بالمحبة. فحينما سُئل عن الوصية العظمى، أجاب قائلا: “… الرب إلٰهنا رب واحد. وتحب الرب إلٰهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قُدرتك. هٰذه هي الوصية الأولى. وثانية مِثلها هي: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين»”. مرقس 29:12. كذٰلك اهتم بالسلام فقد دعى صانعي السلام «أبناء الله»: “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعَون.” متى 9:5. وحين أراد أن يترك لتلاميذه رسالة، كانت رسالة السلام: “«سلامـًا أترك لكم. سلامي أُعطيكم. ليس كما يُعطي العالم أُعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا تَرهَب. …”.
ومع الاحتفال بعيد الميلاد، تتجدد رسالة المحبة والسلام إلى كل إنسان. إن المحبة والسلام هما سرا الحياة والسعادة الحقيقية التي يمْكن الإنسان أن يحياها على الأرض. فالمحبة والسلام يشتركان في أنهما كلما تقاسمهما البشر ازدادا في حياتهم. يقولون:“حينما نتشارك الحزن يخف حمله على صاحبه، وحينما نتشارك الأفراح تزداد بين البشر.”. لذا، قدَّم مار “يوحنا الرسول” في رسالته الأولى وصية المحبة قائلـًا: “أيها الأحباء، لنحب بعضنا بعضـًا، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرِف الله.” وعلمنا مار “بولس الرسول” في رسالته إلى العبرانيِّين: “اتبعوا السلام مع الجميع …”.
أهنئكم بعيد الميلاد، مصلين من أجل أن يعم السلام والمحبة والهدوء مِصر، وسوريا، والعراق، والوطن العربيّ، والعالم بأسره.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ