“مصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا.” بهذه الكلمات كان يعيش البابا شنوده الثالث، فمصر كانت في قلب قداسته كما كان هو في قلبها. كنت ترى هذه الكلمات في كل مرة يغادر فيها مصر ثم يعود حاملاً أشواقه ومحبته لهذا البلد الحبيب، فقد كان كل شيء يحياه مصريًا خالصًا، يسعى لأجل مصر ورفعة شأنها وسط بلاد العالم، حتى أنني أود أن أطلق عليه “السفير فوق العادة”.
سفيرًا فوق العادة يتحدث عن مصر
كان دائم الحديث عن محبته لمصر، أذكر أنه في أحد اللقاءات سرد لنا قداسته عن التاجر الأردني الذي حضر إليه وعرض عليه مشروع يحتاج إلى دعم الكنيسة القبطية؛ وكان المشروع هو تعبئة مياه نهر الأردن الذي تعمد فيه السيد المسيح في زجاجات وبيعها في مصر للبركة؛ وفي الحال أجابه قداسته بمشروع مقابل هو تعبئة مياه نهر النيل التي شرب منها السيد المسيح أثناء رحلته إلى أرض مصر وبيعها في الأردن.
أيضًا اهتم بقضايا الوطن في أحاديث قداسته ومحاضراته التي اعتبرت ومضات على جبين التاريخ؛ ففي السادس والعشرين من يونيو 1966م تحدث عن “إسرائيل في رأي المسيحية” بنقابة الصحفيين. ثم محاضرة أخرى في المكان ذاته بعنوان “المسيحية وإسرائيل” في الخامس من ديسمبر 1971م، وفي جامعة الدول العربية تحدث عن “القدس مدينة السلام” وكان ذلك في الثالث عشر من مارس 1995م. وكذلك قام قداسته بتفنيد مفاهيم الصهيونية ومزاعمها، في محاضرة بأكاديمية ناصر العسكرية العليا في الرابع عشر من مايو 2002م.
وحينما هبت البلاد في حربها لاستعادة الكرامة المصرية والأراضي المحتلة في حرب يونيو 1967م، كتب قداسة البابا العديد من المقالات الوطنية لدعم الوطن والقوات المسلحة، منها: “إننا ندافع عن أراضينا”، و”دفاعاً عن الحق”، و”أرض سيناء مقبرة للإسرائيليين”، و”الصهاينة أعداء المسيحية”. كما دعا قداسته إلى مؤتمر شعبي لتكريم مجموعة من ضباط وجنود معركة أكتوبر من المسلمين والأقباط في الذكرى الأولى لانتصارات حرب السادس من أكتوبر، وكان ذلك في التاسع من أكتوبر 1974م.
وفي هذا الشأن لم يتوقف الأمر على محاضرات فقط بل قام قداسته بزيارة الجبهة عدة مرات قبل حرب أكتوبر، والتقى بقادة القوات المسلحة وبالضباط والجنود في الخطوط الأمامية. وفي أثناء اندلاع الحرب قاد الكنيسة في دور وطني تاريخي بارز، من أجل: الدعم المعنوي والسياسي للوطن أثناء الحرب، دعم المجهود الحربي، توفير الأدوية والمساعدات الإنسانية. كما شارك قداسة البابا في جلسة تكريم أبطال حرب أكتوبر بمجلس الشعب في السابع عشر من أكتوبر 1973م، وفي الثاني والعشرين من نفس الشهر زار قداسته الجنود الجرحى في المستشفيات، ثم في الرابع والعشرين من مارس 1974م زار الجبهة بعد انتهاء العمليات العسكرية.
سفيرًا فوق العادة في بلاد المهجر
اهتم قداسة البابا بتأسيس الكنائس القبطية في المهجر لرعاية وربط المصريين في الخارج بالكنيسة القبطية والوطن الأم، فكان دائم الزيارات لهذه الكنائس مشجعًا لأبنائه في دعم البلاد بكل السبل والوسائل، كما حرص قداسته في كل رحلاته الرعوية خارج حدود الوطن على زيارة السفارات المصرية، والقنصليات المصرية، والمراكز الإسلامية، حتى وصف بأنه “سفير فوق العادة لمصر”.
حرص قداسة البابا على تقديم صورة مشرفة لمصر والمصريين أمام العالم كله حتى حظى باحترام العالم كله وقدم له عدد من الجوائز العالمية تكريمُا له:
مُنح قداسته تسعة شـهادات دكتوراه فخـرية من جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والمجر:
دكتوراه من جامعة بلومفيلد بنيوجرسي في أبريل 1977م.
دكتوراه من جامعة سان بيتر بجرسي سيتي في مارس 1977م.
دكتوراه من جامعة سان فانسان بأمريكا في سبتمبر 1989م.
دكتوراه من الجامعـة الكاثوليكية ببون في نوفمبر 1990م.
دكتوراه من جامعة نورث بارك بشيكاغو في أبريل 2001م.
دكتوراه من جامعة ناشوتا هاوس بوسكونسن في مايو 2001م.
دكتوراه من جامعة توليدو بأمريكا في أغسطس 2002م.
دكتوراه من جامعة لورانس بميتشجن بأمريكا في أغسطس 2007م.
دكتوراه من الجامعـة الكاثوليكية بالمجر في أغسطس 2011م.
كما حصل قداسة البابا على عدد من الجوائز العالمية:
جائزة أفضل واعظ ومعلم للدين المسيحي في العالم من مؤسسة Browning بروننج الأمريكية لعام 1978م.
الميدالية الذهبية لجائزة السلام التي حصل عليها الرئيس أنور السادات (1970 – 1981م) من المجلس الميثودي العالمي لعام 1978م، تحية لجهوده في حفظ روح المحبة والتآخي.
جائزة “مادنزيت سينج للتسامح” من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو UNESCO) لعام 2000 م.
جائزة حقـوق الإنسـان من ليبيا لعام 2003م.
وشـاح من رئيس جمهورية المجر ووسام الدولة المجري عام 2011م.
جائزة أوجوسبورج الألمانية للسلام لعام 2011م.
وسام الصليب الأكبر للقديس أغناطيوس من الكنيسة السريانية عام 2011م.
جائزة الماس من مؤسسة الكاردينال كينج الكاثوليكية بفيينا بالنمسا (2012م).
وقد لقي قداسة البابا أيضًا كل التقدير والاحترام في البلاد العربية ففي المملكة العربية السعودية أصر سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز على حضور قداسة البابا حفل افتتاح “معرض الرياض اليوم” عام 1985م بالقاهرة. وكان قداسته يُشارك الجميع في مناسباتهم الوطنية معلناً روح الموَّدة والمحبة.
كما استقبلت دول الخليج العربي وجود الكنيسة القبطية على أراضيها بكل الحفاوة والترحيب والدعم، بصورة غير مسبوقة، تقديراً للمواقف الوطنية لقداسته.
سفيرًا فوق العادة في حل المشاكل
كان قداسة البابا يؤمن أن حل المشكلات يبدأ من داخل البيت بين أفراد الأسرة الواحدة دون أي تدخل خارجي رافضًا دعوات كثيرة لتدويل قضية الأقباط:
فبإحساس وطني وتجاوب مع الرأي العام في مصر، رفض قداسته مقابلة لجنة الحريات الدينية عدة مرات. كذلك أعلن في أكثر من مناسبة، وفي مؤتمرات صحفية عالمية، أنه يرفض أية تدخلات أجنبية لحماية الأقباط في مصر، ومن أقوال قداسته بالمؤتمر الصحفي العالمي في 6 يوليو 1992م: “أننا بصفة رسمية لا نقبل إطلاقاً أن تتدخل دولة أجنبية في أمورنا الداخلية، والأقباط في مصر لا يقبلون أبداً التدخل الأجنبي، ولو تدخلت دولة من تلقاء نفسها سوف نعتذر عن تدخلها”، ومن أقوال قداسته أيضاً “نحن لا نحب أن نكون أقلية تحتاج إلى حماية، ونرفض أى تدخل أجنبي لكى يعطينا حقوقنا، نحن نأخذ حقوقنا من بلدنا وبالطريق الوطني وحده.”
وأيضًا رفض قداسة البابا محاولات إحدى المراكز اعتبار الأقباط ضمن الأقليات، كما رفض مشاركة الأقباط في مؤتمر الأقليات عام 1994م، وقال قداسته: “نحن مصريون جزء من شعب مصر، ولا نحب أن نعتبر أنفسنا أقلية، ولا أن يسمينا البعض أقلية”.
كما رفض أي محاولات انقسام في الشعب المصري فحينما طلب أحد الأشخاص تأسيس حزب سياسي يضم الأقباط فقط، رفض قداسة البابا فكرة إنشاء حزب سياسي قبطي، فالحزب السياسي عليه أن يخدم المجتمع بأكمله، لا مجموعة واحدة منه، وقال قداسته: “نحن نريد أن يكون عضو مجلس الشعب مدافعاً عن البلد كله مسلمين ومسيحيين دون أن يوجد انشقاق عنصري من هذا النوع” ويقول قداسته أيضاً: “من أجل الوطن وحرصاً على وحدته أرفض قيام أي حزب مسيحي.”
وعن الإتهام الذي تعرض له الأقباط بأنهم يسعون إلى إنشاء دولة قبطية قال قداسة البابا: “لو عرض على الأقباط أن تكون لهم دولة فسوف يرفضون ويعتبرون الأمر هزلاً غير مقبول”.
وبكلمات قداسة البابا شنوده الثالث الذي عاش “سفيرًا فوق العادة لمصر” عن مصر وفي حبها أختم كلماتي:
جعلتك يا مصر في مهجتي
وأهواك يا مصر عمق الهوى
إذا غبت عنك ولو فترة
أذوب حنينا أقاسي النوى
إذا عطشت إلى الحب يوما
بحبك يا مصر قلبي ارتوى
نوى الكل رفعك فوق الرؤوس
وحقا لكل أمريء كل ما نوى
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ