مع بداية عام جديد نتوقف قليلًا لنفكر في أمور حياتنا: كيف كانت؟ وكيف هي الآن؟ وكيف ستستمر؟ فكل عام جديد يحمل لنا دعوة بأن نبدأ ما لم نبدأه بعد، وأن ننمو فيما قد بدأناه؛ إنه طَرَقات على حياة كل إنسان للبَدء والنمو. إن رحلتنا مع الأيام تَحفِر داخلنا علامات وآثار تُغيِّر منا؛ فنحن لا نظل الشخصية نفسها طوال أيام عمرنا. فاجعل من هٰذا التغير دافعًا لك دائمًا إلى التقدم في حياتك.
لذا أدعوك في بداية عام جديد إلى أن تسافر بأفكارك في عام مضى بكل ما حمَل من أحداث، وأن تطمئن؛ فالله الذي حفظك ودبر أمورك طوال هٰذا العام ما يزال يدبر أمورك، ويجود عليك، لا أنت فقط بل كل خليقته، وقُل: “بارِكِي يا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلا تَنْسَيْ كُلَّ حَسَناتِهِ.” مز2:103.
ثِق بمحبة الله لك
املأ العام الجديد بالثقة بمحبة الله، محبته الفاعلة من قَبل خلقتك؛ فأنت محبوبه الذي قال عنك: “َلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ” أم31:8، كنتَ في فكره، وأحبك قبل أن يوجدك، وظهرت محبته عندما أتى بك إلى الوجود لتمتع بها. وتعبِّر الكنيسة عن هٰذه المحبة في القداس مصلية: “ليس شيء من النطق يستطيع أن يَحُِدّ لُجَّة محبتك للبشر. خلقتني إنسانًا كمحب البشر، ولم تكُن أنت المحتاج إلى عبوديتي، بل أنا المحتاج إلى رَبوبيَّتك”.
ثم أعَدّ لك الكَون: السماوات بمجراتها، والأرض بمزروعاتها لتكون طعامًا وبحيوانها لتُخضعه وتتسلط عليه، وهيّأ كل حاجاتك؛ ولذا نصلي: “من أجل تعطفاتك الجزيلة كوَّنتني إذ لم أكُن. أقمتَ السماء لي سقفًا، وثبَّتَّ لي الأرض لأمشي عليها. من أجلي ألجمتَ البحر. من أجلي أظهرتَ طبيعة الحيوان. أخضعتَ كل شيء تحت قدميّ. لم تدَعني مُعوَزًا شيئًا من أعمال كرامتك”.
ومن محبة الله للإنسان أنه خلقه على صورته: “َقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا ..” تك26:1. وحتى حين أخطأ الإنسان وسقط، لم يتركه الله صريع اليأس بل أعد له خُطة الخلاص بأكملها فقال: “.. وَأَضَعُ عَداوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِها. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ».” تك3: 15. فثِق بمحبة الله لك التي أعلنها إرميا النبيّ: “«مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ ..” (إر31: 3)، ولا تهتز ثقتك بمحبته لك لحظة ولا لُحَيظة.
ثِق بناية الله
ليكُنِ العام الجديد عامًا للثقة بعناية الله بك، ولا تقلق من أن حاجاتك لا تُوفَى؛ أليس هو من قال: “فَلا تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَما تَشْرَبُونَ وَلاَ تَقْلَقُوا، فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّها تَطْلُبُها أُمَمُ الْعالَمِ. وَأَمّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتاجُونَ إِلَى هٰذِهِ.” لو29:12-30. وقد شعَر الآباء القديسون بعناية الله الفائقة فقال داود النبيّ في سفر المزامير: “أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ.” مز22:55. فتيقَّنْ أن الله دائمًا يعولك في كل أمورك، ولا تُفكر كثيرًا، واترك جميع همومك عليه. إن محبة الله للإنسان لا تنتظر طلبًا وإنما تتحرك دائمًا تجاهه بالاهتمام وبتلبية كل حاجاته من مأوًى ومأكَل وملبَس وغيرها؛ كما قال داود النبيّ: “أَيْضًا كُنْتُ فَتًى وَقَدْ شِخْتُ، وَلَمْ أَرَ صِدِّيقًا تُخُلِّيَ عَنْهُ، وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزًا.” مز25:37. وكل من عاش مع الله عرَف عنايته الفائقة؛ حتى إن القديس يوحنا الذهبيّ الفم عبَّر عن هٰذا بقوله: “إن كنتَ تشُك في عناية الله، سَلِ الأرض والسماء والشمس والقمر، سَلِ الكائنات غير العاقلة والزروع، سَلِ الصخور والجبال والكُثبان الرملية والتلال، سَلِ الليل والنهار. فإن عناية الله أوضح من الشمس، وأشعتها في كل مكان: في البراري، والمدن، والمسكونة، وعلى الأرض، وفي البحار، أينما ذهبتَ تسمع شهادة ناطقة بهٰذه العناية الصارخة”.
حوار
أتذكر قصة قرأتُها عن حوار بين طائرين يقول أحدهما للآخر: لِمَ نرى البشر قلقين ومنزعجين دائمًا؟! أجاب الطائر الآخر: هم قلقون لأنه لا إلٰه لهم يَقُوتهم مثل الله الذي يهبنا غذاءنا كل يوم! إن الله هو هو، أمس، واليوم، وإلى الأبد؛ فمَن أشبع شعبه في البرِّية، وأشبع الجموع من خمس خبزات وسمكتين، قادر أن يُشبع أولاده في كل مكان وزمان.
الله يريد توبتك وخلاصك
لتكُن لك ثقة بأن الله يسعى لخلاصك وتوبتك وردِّك إلى محبته؛ فهو الذي سعى لتوبة أهل نينوى، ووبخ من أجلهم نبيًّا عظيمًا مثل يونان “فَقالَ الرَّبُّ: «أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيها وَلاَ رَبَّيْتَها … أَفَلا أَشْفَقُ أَنا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَِبْوَةً مِنَ النّاسِ الَّذِينَ لا يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمالِهِمْ، وَبَهائِمُ كَثِيرَةٌ؟!».” يون10:4-11. إنه ينتظر عودتك كما رجَع الابن الضال، والسامرية، والمرأة الخاطئة، فكل من يُقْبِل إليه لا يُخرجه خارجًا. فقط، هو يحترم حريتك ورغبتك في الحياة معه.
الله يعرف آلامك
تيقَّنْ أن الله يشعُر بكل آلامك؛ فهو “فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضايَقَ، وَمَلاكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ الْأَيّامِ الْقَدِيمَةِ.” إش63: 9. لقد شاركنا السيد المسيح له المجد الألم، وشعَر بكل المشاعر التي تمر بالانسان؛ لذٰلك هو يعرف ألمك، وقادر أن يُعِينك؛ كما ذكر لنا معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيِّين: “لِأَنَّهُ فِي ما هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ.” عب18:2. وكأنك تصرخ إليه: هل تشعر بي يا رب؟ فيجيبك: أنا أعلَم تمامًا ما يمر بك من آلام وضيقات؛ فقد اجتزتُ فيها. فقط، ثِق بي وسترى الراحة والسلام، وستتعلم كيف تعلو أمواج الحياة التي تحاول ابتلاعك. فعلينا دائمًا أن نتذكر أن الذي حفظ يوسُِف في الوِشاية والسِّجن، وموسى من الموت، والفتية من أتُّون النار، ودانيال من جُب الأُسود، وكل من احتمى به، ما زال يحمي وينجي؛ فالله يظل أمينًا لا يقدر أن يُنكر نفسه.
هناك قصة حدثت لطفل وأخته، مات والداهما، ولم يعرِفا كيف يتصرفان أو لمن يلجآن؛ فقررا كتابة خطاب وإرساله بالبريد إلى الله! وبعد أن تحيَّر سعاة البريد، وصل الخطاب إلى مدير الهيئة الذي قرر تبني الطفلين إذ لم يُرزق هو وزوجته أطفالًا. ربما لا تستطيع أن تكتُب خطابًا وتُرسله بالبريد إلى الله، ولٰكنْ ما زال بإمكانك إرسال كل رسائلك وكلماتك التي تحمِل مخاوفك ومعاناتك إلى الله في صلوات يومية ترفعها إليه مُتيقِّنًا أنه في انتظارها؛ فهٰذا ما قيل في المزمور: “اُدْعُنِي فِي يَوْمِ الضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَُنِي.” مز15:50. وكُن على يقين أيضًا من أن كل ضيقة يسمح بها الله فهي لخيرك ولمباركتك، وكلما ازدادت الضيقة ازدادت البركة. إن مشكلة الضيقات التي يعانيها البشر أنهم يركزون أعينهم دائمًا صوب الأمواج الهائجة حولهم، ولا يرفعونها إلى الله ضابط هٰذه الأمواج. وهنا تحضُرني كلمات مثلث الرحمات قداسة البابا شنوده الثالث: “ضَعْ الله بينك وبين الضيقة؛ فترى الله وتختفي الضيقة.”
أتمنى لكم عامًا ممتلئًا بالبركة والسلام والمحبة، ولبلادنا الحبيبة مِصر كل خير واستقرار.
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ