بدأنا الحديث فى المقالة السابقة عن القدرة التى يمتلكها بعضنا للتأثير فى حياة الآخرين، الأمر الذى يغير من أسلوب حياتهم ويضيف معانى إلى رحلة الحياة. كان المثل الأول هو ذٰلك الطباخ البسيط الذى كان له أشد الأثر فى حياة أبنائه فصاروا هم بدورهم مؤثِّرين فى مجتمعهم. أمّا المثل الثانى، فهو إحدى المعلمات التى لم تتخذ التدريس مهنة لها فحسب، بل حياة تقدمها إلى طلابها ؛ ربما تكون قصتها حقيقية، ربما تكون مشهدًا من أحد الأفلام، لٰكنها تحمل معنًى عميقًا عن الحياة.
اهتمت المعلمة بأن تقدم لطلابها الهدف الحقيقى للتعليم والمعرفة ؛ فهى ترى أن اتخاذ الدراسة واجبًا يؤديه الإنسان من أجل الالتحاق بجامعة جيدة ثم وظيفة مرموقة ليس بالهدف الرئيسى فى رحلة الحياة، بل يجب أن يتخطى حدود الواجب إلى أعماق الرغبة الحقيقية فى المعرفة والتعلم، فتقول: “الدراسة ليست شيئًا يجب القيام به : إنها شيء يجب أن ترغبوا القيام به. فى المستقبل، سوف تمر بكم أشياء كثيرة لن تعرِفوها، ولن تُدركوها أشياء جميلة وممتعة وغامضة.. وعندما يحدث ذٰلك فقد ترغبون فى معرفة مزيد فطبيعة البشر ترغب فى المعرفة.. فى اللحظة التى تفقدون فيها رغبتكم فى المعرفة، فى اللحظة عينها، تصيرون فى عداد الأموات !”.
إن وجود رغبة حقيقية فى المعرفة داخل الإنسان تفتح له آفاق الفكر كى يبحث وينقب عن المعرفة ليدرك بها كثيرًا من أمور الحياة والعالم من حوله؛ وبذٰلك يبدأ بخطوات نحو حياة ذات معنًى تحمل فى طياتها سمات العظمة: “إن لم تحاول أن تفهم العالم المحيط بك، فما الذى يمكنك فعله؟! فمهما درست، لا بد من بقاء نواحٍ من العلم التى لا تفهمها… الدراسة ليست أمرًا تقومون به من أجل اجتياز الامتحانات؛ إنها مُهمة سامية تمنحكم القدرة أن تصبحوا عظماء.”. إن العظماء أشخاص اتسعت عقولهم وقلوبهم لتحوى معنى الحياة وهدفها.
لم يكُن حديثها مع طلابها عن العلم والدراسة فقط، بل تخطى تلك الحدود ليتسع مع اتساع الحياة؛ فقد كانت تَحفِز فى أعماقهم عديدًا من التساؤلات كإجابتها فى حل ما يعترضهم من مشكلات : “إن قام شخص ما بمضايقتكم فى المستقبل ، فإن أهم شيء هو أن تتحلوا بقوة الاحتمال، وإيجاد الوسيلة المناسبة لحل هٰذه المشكلة…”. أمّا عن الوسيلة المناسبة، فليست بإيذاء الآخرين أو قتل أحلامهم أو تدميرها، إنما هى ارتقاء الإنسان فوق الأمواج المضادة التى تحاول عرقلة مسيرته ؛ من أجل مزيد من النجاحات والإنجازات.
أيضًا فى الحياة، لا مناصّ من أن يُخطئ الإنسان، ولٰكن الأقوى هو من يواجه أخطاءه ويعدل من نفسه فيطورها إلى أفضل. أمّا من يختار طريق الشر، فحتمًا لن يجد إلا التيه فى دُروب الحياة التى ستصبح حملاً ثقيلاً يفقتقد معنى السعادة : “احفظوا هٰذه النصيحة فى قلوبكم : كل من يقترف جريمة سيُقبض عليه، وإن تمكنت من الهرب، فإنك ستعانى الندم وتأنيب الضمير طوال حياتك! وسيهجرك الناس المحيطين بك وستبقى وحيدًا إلى أن تموت!!.. ولن تكون سعيدًا أبدًا مرة أخرى !”. فهٰذا هو العدل الذى يجب أن يُدركه الجميع فى الحياة.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسيّ