تحدثت فى مقالة “الغيرة (1)” عن مشاعر الغَيرة السلبية، وعرضت لبعض أسبابها، وكيف أنها تُعد كارثة حقيقية إذ تملأ قلب الإنسان تجاه نفسه والآخرين بما يؤثر سلبًا فى سلوكه ويضلله عن رؤية حقيقة الأمور.
أمر آخر هو أن الغَيرة تُعيق الإنسان عن الانطلاق نحو عمله وتحقيق أهدافه، إذ ينشغل بالآخرين، ناسيًا رسالته وما يريد أن يحققه فى طريق الحياة. وحين تنشغل عينا الإنسان عن الطريق الذى يود أن يسلكه بتثبيت النظر فى الآخرين وما يحققونه، فهو فى اللحظة عينها ينشغل عن أهدافه، وقد يحيد عنها كليةً متى استسلم لمشاعر الغَيرة والإحباط المتولد منها؛ وهٰكذا تُفقِد الغَيرة وضوح الهدف ومعه الطريق. يا عزيزي، أنت تعيش الحياة من أجل رسالة؛ فلا تنشغل عنها بأشخاص أو بما يصادفك فى الطريق من بريق ينتزعك من أهدافك.
إن أولٰئك الذين يرغبون فى إدراك النجاح عليهم أن يضعوا أهدافهم نصب أعينهم، ساعين نحوها بكل أمانة دون تباطؤ أو تكاسل أو يأس؛ فذٰلك الإنسان الذى ينشغل بالعمل الإيجابى والتوجه إلى تسلق القمم والجبال لن يجد مكانًا فى قلبه أو أفكاره لتلك الأمور السلبية، ولن يكون لديه متسع من الوقت للبحث فى ما يملِكه الآخرون؛ إنه منشغل بتقييم أدائه وأساليبه وبتطوير ذاته وباكتساب مزيد من المهارات.
أيضًا فى غَيرة الإنسان فقدان لسعادته: فالغَيرة هى نوع من عدم تقدير الإنسان لما وهبه الله له من إمكانات يمكنه أن يحقق بها الإنجازات، كما فيها تركيز فى ما يملكه الآخرون ويفتقده هو. ولنا أن ندرك كيف تكون مشاعر الإنسان الذى لا يُدرك مواطن قوته ويبنى أفكاره على ما لدى الآخرين؟!! إن من أساسيات السعادة للإنسان أن يؤمن أشد الإيمان بأنه يمتاز بكثير من المواهب والملكات التى يمكنه أن يستخدمها ويتقدم بها فى رحلة الحياة؛ فالله ـ تبارك اسمه ـ عادل، وقد خلقنا فى هٰذا العالم من أجل نحيا حياة لها عمق ومعنى، وفى هٰذه الرحلة قد حصّن كلاًّ منا بمواهب وملكات متعددة ومتنوعة. ولٰكن لٰيست مواهبنا متماثلة فلا شخصية تُطابق أخرى مهما اقتربت منها أو بدت أنها تُماثلها فدائمًا اختلاف، وهدف الاختلاف أن نتكامل جميعنا معًا ونعمل سويًّا. ولذا على كل إنسان أن يدرك ما أُعطى إياه، وأن يستثمره على أفضل ما يكون.
لنتذكر تلك الكلمات: لا تحسد الناس على نعمهم فأنت لا تعلم ماذا أخذ الله منهم! وحينما تعيش حياتك أنت، لا حياة الآخرين، فسوف تعرف معنى السعادة، ولن تجد معنًى للغَيرة. ذات يوم، قال لى أحد الأشخاص: لم أكُن أعرف معنى السعادة أو الراحة فى حياتي؛ فمنذ طفولتى التى ازدحمت بخمسة إخوة وأخوات ووالدين لم يجدا وقتًا لسوى العمل من أجل أبنائهم، كنت لا أفعل فعلاً واحدًا دون مقارنة نفسى بالآخرين وبما يملِكون!! لم أتعلم أن أنظر فى ما يمكن أن أكون أمتلكه أنا. حتى التقيتُ شخصًا علمنى كيف يجب أن أنظر فى ذاتى أولاً وما أملكه من ميزات وما يضرنى من عيوب، ثم أُتقن وأعزز الإيجابيات وأتدرب على التخلص من السلبيات؛ ومنذ ذٰلك الحين لم أجد وقتًا للنظر فى ما يملكه الآخرون وانسابت السعادة والراحة إلى حياتى.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى