تساءل عن الإنسانية والمحبة؛ فأجبته: نعم، إن المحبة التي تشعر بآلام الآخرين وبأحزانهم وتشاركهم سعادتهم، والتي يمكنك أن تكتشف سماتها من أعمال الرحمة؛ هي عُنوان الإنسانية! توقفت قليلاً، ثم قلت: أتذكر صورة لشاب يتزوج بشابة تصغره بقليل ـ وإن كان يبدو عليها الضعف والوهن، وتحت الصورة بعض عبارات تقول إنها لشخص قرر أن يتزوج خطيبته المريضة بمرض “السرطان” بعد أن ذكر الأطباء المعالجون أنها لن تعيش طويلاً إذ أن المرض قد تملك من جسدها الضعيف! وعندئذ قرر الشاب على الفور أن يُقْدم على عمل يُسعد به تلك الفتاة قبل أن تغيب عن العالم: دعا الشاب عائلته وأصدقاءه ليشهد المستشفى مراسم عرسهما!! لقد أراد أن يقدم بعضًا من السعادة لمحبوبته التي تملِك في قلبه رصيدًا عظيمًا من الحب، ولا شك أن أعماقه كانت تتمزق ألمًا. وبالفعل أجريت مراسم الزواج؛ لتعبّر الفتاة عن سعادتها، ثم ترحل عن الحياة بعد أقل من عشرين ساعة!! إن موقف ذٰلك الشاب الإنسانيّ تجاه فتاته، برغبته الشديدة في أن يمنحها ابتسامة قبل رحيلها، استوقفني بشدة لإصراره على العطاء.
قال: قد يكون نوعًا من مشاعر الشفقة التي تنتابنا بعضنا نحو بعض في مواقف الحياة. قاطعته: الإنسانية، يا صديقي، ليست مشاعر قابلة للزيادة في وقت ما وللنقصان في وقت آخر! إنها مبدأ في الحياة تعيش به الحياة؛ فلا يمكن أن تمتلئ حياتك وأفكارك ومن ثَم سلوكك بملامح الإنسانية الإيجابية في مواقف، وفي مواقف أخرى تتضاد معها!! لا يمكن أن تملِك المحبة والكراهية نحو الآخرين في وقت واحد!! صمتَ قليلاً، ثم قال: يبدو أن الأمر ليس سهلاً! أجبته: على النقيض، فالأمر بسيط وواضح، لٰكنه يحتاج إلى قرار ومسؤولية: أيّ هدف ترغب في تحقيقه؟ ومن ثَم، أي طريق تسلك؟! تمتم قليلاً، ثم سأل: ماذا تقصد؟ أجبته: أقصد أننا في مِحكّ الحياة، علينا أن نُدرك المعاني الحقيقية للإنسانية، أن نعي جيدًا الفارق الكبير بين المحبة والامتلاك: فالأولى تقدم وتمنح، والثاني يأخذ ويسعى نحو التملك! المحبة ترى الإنسان إنسانًا، والامتلاك يراه شيئًا ـ شتان ما بين الحرية والامتلاك؛ وحين ندرك الاختلاف ـ في ظني ـ سوف تتغير مواقفنا تجاه الآخرين. وهذا التغيير سوف يجعل من الإنسانية أسرة كبيرة ترتبط معًا، وتملك سمات مشتركة فتصبح أفعالها بحسب ما يليق بكرامة الإنسان التي وُهبت له من الله ـ تبارك اسمه؛ وعندئذ يتمكن الجميع معًا من تحويل الألم والمعاناة إلى أمل تتردد أصداؤه على جنبات طريق الحياة. إن نماذج الإنسانية متعددة، وما يزال كثيرون يحملون في أعماقهم مبادئها الجليلة.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ