قال: “الرحمة بالضعفاء” هى سمة القلوب الرحيمة التى تسعى لإراحة الآخرين؛ ولٰكن:ألا تعتقد أن هٰذا ما يراه بعض الناس حملاً يَزيد من أعباء الحياة؟ فكثيرًا ما نسمع عبارات مثل: “الواحد فيه الِّى مكفيه”، “لما نرتاح نبقى نريح الناس”، وغيرهما! صمتُّ قليلاً، والأفكار تتزاحم بمخيلتى. ثم قلت: كما ذكرت لك، يا صديقى: إن الرحمة طريق يسلكه الرحماء بحسب إمكاناتهم وقدراتهم، ومن يؤمن بدوره فى إراحة الآخرين حتمًا يجد وسيلة، وبمرور الوقت يدرك أنه يحقق لنفسه هو أيضًا الراحة والسعادة.
ظهرت علامات الدهشة على وجه صديقى. فبدأت فى شرح ما أقصد هقبل أن تبادرنى كلماته بالسؤال. فأكملت قائلاً: ما رأيك فى أن يقوم كل إنسان بعمله بأمانة وعلى أفضل وجه، هل يعَد ذٰلك حملاً عليه؟! أجابنى: لا أظن؛ فإن من واجبات كل إنسان أن يكون أمينًا مخلصًا فى عمله؛ وهٰذا ما طالبت به الأديان جميعًا، بل إنه إحدى أهم دعائم المجتمعات الناجحة. قلت: عظيم؛ وأوافقك الرأى تمامًا. فإن ما أود إيضاحه أن أولى خطوات الرحمة الإنسانية: هى أن يبدأ كل إنسان فى أداء واجبه والقيام بعمله بأمانة. دعنى أحاول توضيح مقصدى من خلال رسم صورة لمجتمع: يعمل فيه الطبيب بأمانة فى علاج مرضاه، والمهندس يقيم المنشآت والمنازل وغيرها بدقة، والمعلم يقدم شرحًا وفَهمًا وافيَيْنِ بتفهم كامل لاحتياجات طلابه، والباحث يعكفعلى تطوير وسائل الحياة بأبحاثه، والممرض يهتم بمن يرعاه، والموظف يؤدى التزامات عمله بدقة وسرعة، والعامل ينتج أفضل ما يمكنه، وعامل النظافة يجتهد فتتجمل شوارع المدينة، وغيرهم.
أسرع قائلاً: لا أشك أنه مجتمع ناجح. قلت: والأكثر من ذٰلك أن أفراده يكونون سعداء، يغمرهم السرور والفخر. أتذكر قصة الطبيبة المِصرية “وسام رمزى” التى أصرت على إيقاف قطار من أجل إنقاذ طفل: فبينما كان قطار يُقلها من “أسيوط إلى “الإسكندرية”، إذ تجد محصِّل القطار يتساءل عن وجود طبيب بالقطار لمساعدة طفل رضيع لم يتجاوز عامين، فاقد الوعى ويحتضر! أسرعت الطبيبة بعمل الإسعافات الأولية والتنفس الصناعى للطفل حتى بدأ يتنفس طبيعيًّا، إلا أنه لم يستعِدْ وعيه بعد، فعزمت الطبيبة على إيقاف القطار لنقل الطفل إلى أقرب مستشفى حفاظًا على حياته، فسارعت إلى رئيس القطار تستنجد به لإيقاف القطار ليتسنى نقل الطفل إلى أقرب مستشفى، إلا أن سائق القطار أعلن عدم قدرته على إيقاف القطار قبل محطة “طنطا”!! التى كانت تبعد قرابة الساعة!! وهو ما يجعل فرصة إنقاذ الطفل معدومة. أصرت الطبيبة على إيقاف القطار، فتحدث رئيس القطار إلى ناظر “محطة بنها”ليقف السائق مجبرًا فيها؛ وأخيرًا توقف القطار ليجد الطفل ووالدته سيارة إسعاف وسيارة شرطة تصحبها كانتا فى انتظارهما، فنُقل الطفل مع والدته إلى المستشفى وتم علاجه. ولك أن تتخيل مدى السعادة والراحة التى غمرتا أسرة الطفل!
ألا ترى، يا صديقى، أن الرحمة أول ما تكمن فى أن يؤدى كل إنسان واجبه بأمانة؛إذ تعطى راحة للآخرين، وحتمًا يجنى كل إنسان ثمار رحمته.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسيّ