أهنئكم بعيد ميلاد السيد المسيح، ونطلب إلى الله أن يكون هٰذا العام مملوءًا سلامـًا وخيرًا وهدوءًا وطمأنينة.
حين نتأمل قصة الميلاد، نجد أنها بدأت بوعد الله أن نسل المرأة يسحق رأس الحية: “… وأضع عداوة بينكِ وبين المرأة، وبين نسلكِ ونسلها. هو يسحق رأسكِ، وأنت تسحقين عقبه».” (التكوين 15:3). وانتظرت البشرية هٰذا المولد العجيب الذي تحدث به الأنبياء في نبواتهم، ميلاد السيد المسيح، فذكر إِشَعْياء النبيّ: “… ها العذراء تحبل وتلد ابنـًا وتدعو اسمه «عمانوئيل».” (إشعياء 7: 14). وأيضًا قال: “لأنه يولَد لنا ولد ونُعطَى ابنـًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبـًا، مشيرًا، إلٰهـًا قديرًا، أبـًا أبديـًّا، رئيس السلام.” (إشَعَياء 6:9). ولقب “رئيس السلام” رددته الملائكة حين ظهروا للرعاة وبشروهم بولادة طفل المذود؛ فميلاد السيد المسيح كان هو الطريق لعودة السلام المفقود بين الأرض والسماء، والمولود هو “ملك السلام”؛ “«المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة».”،ويفسر لنا القديس “متى الإنجيليّ” أن اسم “عمانوئيل” يعني “الله معنا” (متى 23:1).
وحين تحقق الوعد، قدَّمت إلينا قصة الميلاد الشخصيات التي اشتركت في أحداثه، التي كان لكل منها تفاعل مختلف وخاص جدًّا تجاه هٰذا الحدث؛ فالله “لم يترك نفسه بلا شاهد” (أعمال الرسل 17:14) في أيّ عصر مهما كان مظلمـًا، بل دائمـًا هناك رجاء؛ وفساد العصر لا يمنع عمل روح الله.
ولذا نجد أن مجموعة كبيرة من القديسين عاصرت الميلاد؛ من بينهم: “زكريا الكاهن”، الذي ظهر له ملاك الرب وهو يبخر عند المذبح ليبشره بميلاد ابنه “يوحنا المعمدان”، وزوجته “أليصابات”؛ اللذان قال الكتاب عنهما: “وكانا كلاهما بارَّين أمام الله، سالكَين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم.” (لوقا 6:1). فلم يكُن الفساد يومـًا عقبة تمنع وجود أبرار لا في ذاك العصر ولا في أيّ عصر. وإحدى تلك الشخصيات هو القديس الشيخ البار “يوسُِف النجار” الذي اؤتمن على “العذراء مريم” والطفل الوليد من قِبل السماء؛ فلنتأمل معـًا سيرته.
“يوسُِف النجار”
لم يذكر الكتاب المقدس عنه كثيرًا، إلا أننا نعرِف من هٰذا القليل أن أصل عائلته يعود إلى “داوُد الملك” من سبط “يهوذا”، وأنه وُلد في “بيت لحم”. ونجده يذهب بالطفل المولود إلى “بيت لحم” بعد إصدار القيصر أمرًا أن يُكتتب كل مولود في بلده. وكان يعمل نجارًا، ومع فقره إلا أنه كان إنسانـًا بارًّا، يهتم بالحفاظ على الطقوس والأعياد الدينية.
ولم تكُن المهمة سهلة؛ إذ وهو الرجل الشيخ يأخذ الأم الحُبلى ويسافر بها إلى “بيت لحم” حيث يظل يبحث طويلـًا عن مكان لتضع فيه مولودها! إلى أن أرشده أحد أصحاب الفنادق إلى حظيرة للحيوانات (مذود)!! وعندما تعرضت حياة السيد المسيح للخطر، أسرع يأخذ الطفل وأمه هاربـًا بهما إلى أرض مِصر بأمر من ملاك الرب لئلا يُقتل الوليد، غير عابئ بمشقة السفر. وهٰكذا ظل هاربـًا، متغربـًا، يتنقل من مكان إلى مكان في مِصر، وهو لا يدَّخر جُهدًا في تأمين العائلة. وحين أمره الملاك بالعودة، عاد إلى وطنه، ليبدأ دورًا آخر في إعالة تلك الأسرة بكل ما يملِك.
لقد أدى “يوسُِف النجار” دوره ومهمته بكل صلاح غير ساعِ لمجد، وإنما في خدمة خفية مضحية تقدم كل شيء ولا تنتظر الحصول على أي شيء. وحسب التقليد الكنسيّ، فقد مات بين يدَي “السيد المسيح” و”السيدة مريم العذراء”، لذا نجد السيد المسيح يوصي تلميذه يوحنا برعاية أمه “مريم العذراء”؛ فلو كان “يوسُِف النجار” على قيد الحياة آنذاك لكان هو الأولى برعايتها.
ويُعد “يوسُِف البار” من أنبل الأنفس وأرقها وأكثرها تواضعـًا؛ لذٰلك استحق أن يشترك في حدث الميلاد الجليل. ومع أنه قد عاش فقيرًا، إلا أن الكتاب وصفه بأنه “كان بارًّا” (متى 19:1).
كل عام وجميعكم بخير.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ