No Result
View All Result
وجدتني وأنا أنظر إلى اللقطات الفيلمية لاستشهاد الشباب الإثيوبيّ في ليبيا وصورهم، ترتسم صورة أخرى أمام عينيّ لـواحد وعشرين شهيد مِصريّ نالوا إكليل الشهادة، إثر ذبحهم في ليبيا قبل زمن قريب، لن يسمح طول الزمان أن يطمُسها من ذاكرة العالم! لتعود بي الذاكرة إلى زمن سحيق حين ربطت الطبيعة بين “مِصر” و”إثيوبيا” بنهر النيل شِريان الحياة، ومرت أزمنة كثيرة ارتبطت فيها الكنيستان المِصرية والإثيوبية؛ ثم تزداد وُثُق ارتباطهما بأقوى رباط وأعمق شِريان: شِريان الدم والاستشهاد!
نهر يتدفق ماؤه بينهما إن نهر “النيل”، ذٰلك النهر الخالد القديم قِدم التاريخ، يتكون من رافدين أساسيَّين يقومان بتغذيته: “النيل الأبيض” من هضْبة البحيرات، و”النيل الأزرق” من مرتفعات “إثيوبيا”؛ ليتحد النيلان معـًا عند “الخُرطوم” مكوِّنَين نهر “النيل” شِريان الحياة الذي يجري في أرض “مِصر”. وكما تُعتبر بحيرة “ڤيكتوريا” هي المصدر الأساسيّ لمياه “النيل الأبيض”، فإن “النيل الأزرق” ينبَُِع من بحيرة “تانا” التي تقع في مرتفعات “إثيوبيا” شرق قارة “أفريقيا”. وبعد اتحاد النيلين الأبيض والأزرق في “الخُرطوم”، ليشكلا معـًا نهر “النيل”، يعمل نهر “عطبرة”، الذي ينبَُِع أيضـًا من المرتفعات الإثيوبية شماليّ بحيرة “تانا”، على تغذية نهر “النيل” بمزيد من المياه قُبيل جريانه على أرض “مِصر”. وهٰكذا، منذ فجر التاريخ الذي بدأ بحفر أيامه على جدران الزمان، والشعبان المِصريّ والأثيوبي يرتبطان معـًا بنهر حياة واحد، وكأنه ينشُد لحنـًا واحدًا للبلدين هو لحن الحياة والوجود.
الكنيستان المِصرية والإثيوبية تاريخ واحد ربط بين الكنيستين المِصرية والأثيوبية، بدأ في عام ٣٢٩م مع عصر البابا “أثناسيوس الرسوليّ”، العشرين في باباوات “الإسكندرية”. وتكرم الكنيسة الإثيوبية البابا “أثناسيوس الرسوليّ” إكرامـًا كبيرًا بعد أن رعاها بسيامته لأول أسقف لها ”فرومنتيوس“ الذي أطلق عليه الأثيوبيُّون اسم “أبونا سلامة”؛ ومن ذٰلك الوقت إلى البابا “كيرلس السادس”، السادس عشَر بعد المئة في باباوات الإسكندرية، وبطريرك الإسكندرية كان يلقب برئيس أساقفة الكنيسة الإثيوبية. ثم توج البابا “كيرلس السادس” أول بطريرك جاثليق لكنيسة إثيوبيا باسم “الأنبا باسيليوس”. ودائمـًا ما تحمل العَلاقة بين الكنيستين المِصرية والإثيوبية سمات المحبة والمودة القوية اللتين تَزيدان من متانة اتحاد كل كنيسة بشقيقتها؛ وقد ظهر ذٰلك جليـًّا واضحـًا في العَلاقة القوية التي ربطت البابا “كيرلس السادس” بالإمبراطور الإثيوبيّ “هَيلاسلاسي”.
رباط الدم والاستشهاد وكما كانت الكنيسة القبطية على مر عصورها كنيسة استشهاد قدمت آلافـًا من أبنائها شهداء، يظهر رباطـ جديد بين الشعبين المِصريّ والإثيوبيّ في تقديمهما من شباب أبنائهما شهداء جُددًا. إن الاستشهاد لا يُعد نهاية، بل هو بداية للحياة التي لا تنتهي. وقد أدرك الشهداء هٰذا المعنى فارتفعوا فوق الحياة وآلامها وتحدياتها بثبات عجيب وسلام فائق، غير ناظرين إلى أمور هٰذه الحياة التي نعيش فيها جميعنا غرباء؛ وبذٰلك تمكنوا من الثبات على إيمانهم، متذكرين أنهم حتمـًا عائدون إلى وطنهم السمائيّ. لقد استطاع الشهداء أن يُدركوا أن كل الراحة والسعادة الحقيقية التي يسعى الإنسان لتحقيقهما إنما هما في الحياة الأبدية حيث لا تعب أو مرض أو حزن أو ضيق، وأن قصر الحياة في هٰذا العالم وأتعابها يقابلهما لانهائية الأبدية وسلامها اللذان لا يستطيع أحد أن ينزِعهما منهم. لم يهرَُب الشهداء من حمل مسؤولية الحياة عندما كانوا يعيشون فيها، فعمِلوا وتحملوا مصاعبها وآلامها، إلا أنهم آثروا تركها بالثبات على إيمانهم. فهنيئـًا لشهداء “إثيوبيا” بالوطن السمائيّ. وهٰكذا، يزداد ارتباطنا من جديد إذ صار بيننا و بين شعب الحبشة خط دماء سفكه الشهداء من أبناء شعبَينا معـًا، لتعزف تلك الدماء لحنـًا واحدًا هو أنشودة الأبدية!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ
No Result
View All Result