تحدثنا في المقالة السابقة عن أمانة الإنسان في حفظه الوديعة التي تُوكل إليه من الآخرين، وأن من يخون الأمانة لن يعرف النجاح في حياته؛ لأن خيانته ستُكشف أمام الجميع يومًا ما. فلا أفضل من الأمانة، ولا أقبح من الخيانة. والأمانة هي سمة الإنسان الوفيّ والمخلص، وهي تكشف معادن البشر الحقيقية وصدقهم. فالحكم علي صلاح إنسان أو عدمه لا يتأتي من خلال كلماته بل أفعاله التي تبرهن علي صدقه وإخلاصه. يقولون كما أن الشجرة تُعرف من ثمارها، هكذا يُعرف الإنسان من أعماله ” وأيضًا “آلاف الكلمات لن تترك انطباعًا عميقًا مثل عمل واحد”. نعم، فبالأعمال يُحكم علي الإنسان.
تقول القصة إن ثلاثة أصدقاء كانوا يعيشون معًا في إحدي القري، وكثيرًا ما كانت صداقتهم القوية مثار حديث الناس. وذات يوم، اتفقوا علي الذهاب معًا إلي المدينة بحثًا عن الرزق. وفي أثناء. سيرهم، وجد أحدهم، وكان أصغرهم، صَُندوقًا به مال كثير وقد أُلقِيَ في الطريق، فما كان منه إلا أن أسرع به إلي صديقَيه؛ ففرِحوا جميعًا. وبعد حين، طلب الصديقان من ثالثهما الذي وجد المال أن يذهب لشراء بعض الطعام لجميعهم، ثم يتقاسمون بعد ذلك المال. ذهب الصديق لإحضار الطعام، لكنه حين عاد وجد صديقَيه يخبرانه وهما يبكِيان بأنه بينما هما يُعدان المال أتت ريح وذهبت به من بين أيديهما، وبينما هما يبحثان عنه سمِعا صوتًا من شجرة بها ما يُشبه الكهف الصغير يطلب منهما التوقف عن البحث إذ قد أُخذت الأموال ولن ترد إليهما! التفت الشاب إلي الشجرة قائلا: أهذا معقول؟! ولكنه سمِع الشجرة تقول: لِمَ تتعجب؟ إن لم تصدق، اُدخل الكهف. فزِع الشاب وجري نحو المدينة صارخًا: إن الشجرة تسرق النقود وتتحدث!! لم يصدق الناس الفتي، ولكنهم اقترحوا عليه أن يذهب بشكواه إلي أمير المدينة؛ وهناك أرسل معه الوزير. سمِع الوزير القصة، ثم وجد الشجرة تقول: أموالهم لديَّ، وإن كنتَ لا تصدق حاول الدخول إلي الكهف لاستردادها. اضطرب الوزير، وأرسل بما حدث إلي الأمير طالبًا منه الإسراع بالحضور. حضر الأمير، وبعد سماعه القصة، نظر إلي الشجرة سائلا: أأخذتِ تلك الأموال؟! الشجرة: نعم، أخذتُها. قال الأمير: أنا آمركِ برد ما أخذتيه فورًا، وإلا أُشعل النيران فيكِ! أجابت: سلطانك لا يسري عليَّ!! فأمر الأمير بقطع فروع الشجرة، وإشعال النار فيها. فإذا برجل يخرج من كهف الشجرة يطلب الصفح منه، وأخبره أنه صياد فقير طلب إليه الشابان أن يختفي داخل الشجرة، ويدّعي أن الشجرة خطفت النقود، وهذا ليسلبا حق صديقهما الثالث. قضي الأمير بعقاب الصديقين لخيانتهما، والصياد لاشتراكه معهما. وهكذا الأفعال تؤول إلي كشف حقيقة كل إنسان. كذلك يُعد كل مسئول عن آخرين أن في عنقه أمانة مطالب بحفظها، لأنه سيحاسب عنها أمام الله أولا. فالأب والأم مسئولان عن الأسرة، ومن الأمانة أن يرعَيا أبناءهما بالقَُِدوة الطيبة والتربية الصحيحة، وأن يتخذا القرارات التي تئول إلي مصلحتهم. وهكذا كل من هو مسئول عن آخرين. يقول الكتاب: “كُن أمينًا إلي الموت ..”، فهذه هي وصية الله للجميع أن يكونوا أمناء في كل أمور حياتهم إلي النهاية؛ وحينئذ ستكون لهم المجازاة من عند الله وحده. وأخيرًا: إن الحياة دون أمانة أشبه بالمسير في طريق وعِر يؤدي بلا شك إلي هلاك مَن يسيره، لذا: كُن أمينًا تجاه الله، في حفظ وصاياه، وتعاليمه، متمثلا بمحبته لجميع البشر. كُن أمينًا نحو نفسك، في حفظ ما وهبه الله لك وتنميته، من: صحة، كُن أمينًا إلي نفسك في مكاشفتها بما فيها من عيوب وإصلاحها.كُن أمينًا مع الآخرين في كلماتك، وأعمالك، ووعودك، ومواقفك. وحينئذ ستجد بركة الله تملأ حياتك.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ