تحدثنا في المقالة السابقة عن إدراك الإنسان الملتزم لدوره نحو الآخرين، ونحو إخوته في البشرية، وأنه ذلك الشخص الإيجابيّ الذي حين يؤمن بأهمية ما يفعله، يسعي لعمل كل ما يمكنه من أجل تحقيق الفائدة للجميع.
كذٰلك الالتزام، لا يُقصد به الالتزام الشكليّ الناتج من ظروف أو ضغوط تعترض الإنسان، وإنما ما يحمله من معني عمق حقيقيّ لكلمة التزام، يعبِّر عن الأصالة والإخلاص في شخصية الإنسان، ويعمِّق معني الإنسانية في الحياة. قيل: “الصديق الحقيقيّ هو ليس من يصونك وأنتما متفقان، إنما هو من يظل علي العهد والوعد عند الخصام.”
لذٰلك، فإن الإنسان الملتزم يكون متمسكًا بالقيم والمبادئ ويعيش بها؛ فهو لا يتأرجح في أمر تنفيذها فيتَّبعها أحيانًا، ويتركها أحيانًا أخري ككثيرين يطيعون المبادئ والقيم والمُثل في وقت سعادتهم وراحتهم، ووقت الاختلاف والضيق تتغير وتتبدل! بل هو في التزامه: يستمسك بالقيم والمبادئ الإيجابية علي الدوام، يحترم حقوق الآخرين ويقدر قيمة إنسانيتهم، يُدرِك أن ما غُرس في حياته من قيم ومبادئ يظل مصاحبًا له علي مدار رحلة حياته كلها. إن سمة الالتزام، أنه لا يتوقف في حياة الإنسان، فهو مسيرة العمر كله؛ يبدؤها الشخص والتزامه يرافقه ويستمر معه كل أيامه، بل ينمو فيه إذ يتجدد ويتأكد لديه في كل لحظة من خلال ما يمر به من مواقف وأحداث في رحلة حياته.
وكلما ازداد التزام الإنسان، ازداد نجاحه وثقة الناس به ليتحمل مسئوليات أكبر ويحقق إنجازات أعظم. فالتزام الإنسان بأهدافه، وتخطيه العقبات التي تعترضه بالصبر وعدم اليأس مع العمل الجاد، سيؤولان به إلي تحقيق ما هو أبعد من الأحلام! ومن أجمل ما قيل في هٰذا، الكلمات التي تقول: “الالتزام هو الجسر بين الأهداف والإنجازات”، وأيضًا: “أخبرِني بما أنت ملتزم به، أخبرك بما سوف تكون عليه خلال عشرين عامًا؛ فإننا نصير علي ما نلتزم به أيًّا كان”.
وبنظرة سريعة إلي حياة المشاهير والعظماء، نجد أن الالتزام في حياتهم كان هو نقطة انطلاقهم نحو الإبداعات والاكتشافات والاختراعات التي شهِدها العالم. قيل: “إن طريق النجاح هو الالتزام البسيط الذي تجري ممارسته يوميًّا”.
والالتزام يحتاج من الإنسان أن تكون لديه الرغبة والإصرار والاقتناع الفكريّ بأن يسلك في حياته ملتزمًا؛ مدركًا أن هٰذا يحتاج إلي بذل الجُهد والتنازل عن بعض الراحة من أجل تحقيقه. إلا أنه في سبيل هٰذا، يضع نُصب عينيه أهدافه وهي تتحقق، ما يكسبه الصبر والجلَد علي العمل والاستمرار حتي يصل إلي ما يسعي له. تُري، ماذا كان يحدث، إذا توقف العلماء عن أبحاثهم وجهدهم؟! إن ما كان دائمًا يحركهم ويَحُثهم علي المواصلة هو صورة يريدون تحقيقها أو التخلص منها.
فمثلًا “وليَم مورتون” قدَّم إلي العالم خدمة عظيمة باكتشافه التخدير الذي أراح المرضي من عذاب ألم يعانوه. وكتب علي التمثال الذي شُيد له قرب مقبرته: “وليَم مورتون، مخترع التخدير عن طريق التنفس ومكتشفه، ما أدي إلي تخفيف الألم عند إجراء العمليات الجراحية. وكانت الجراحة قبله عذابًا، ولٰكن بعده أصبح العلم قادرًا علي التحكم في الألم والقضاء عليه.” لقد وضع أمام عينيه صورة المريض المتألم؛ فقرر التزامه أن يتخلص من تلك الصورة المؤلمة إلي أن حقق ما كان يصبو إليه.
لذا، الحياة رحلة، أجمل ما في طريقها ضوء يُشِع بالبهجة علي من يسير فيه، والملتزم في حياته هو شعاع ذٰلك الضوء أو بصيصه في طريق حياة الآخرين
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ