تحدثنا في المقالة السابقة عن الالتزام الحقيقيّ الذي يستمر في حياة الإنسان من خلال البعد عن الشكلية، وتمسكه بالقيم والمبادئ، في خط طويل يظل طوال حياته. ويظهر هٰذا في تقدمه وتعدد نجاحات حياته، مع ازدياد ثقة الناس به. ويتطلب هٰذا النوع من الالتزام أن يكون لدي الإنسان رغبة وعزيمة قادرة علي العمل وبذل الجُهد، دون كلل أوملل حتي يحقق ما يصبو إليه.
وكما يحتاج الالتزام إلي عزيمة قوية، فهو يتحقق بالتفكير العقلانيّ غير المندفع وراء المشاعر. فقبل أن يضع الإنسان التزامـًا علي نفسه، ينبغي له أن يدرك أبعاد ما سيلتزم به، وما يحتاجه من قدرات وإمكانات لازمة له، وأنه لن يحمل علي عاتقه ما لا طاقه له به! لذا يقولون: “التزم بما يمكنك الوفاء به”. وينبغي للإنسان ألا يبالغ في تقدير إمكاناته، وفي المقابل لا يقلل من شأنها فتضيق مجالات نجاحه أمام عينيه. ولإجراء هٰذا التوازن، يحتاج الشخص إلي فتح مجالات أمامه في الحياة، والتجربة بروح الالتزام، مع وجود العزيمة والإصرار، وعدم الاستسلام للمعوقات. كما ينبغي أن يدرك الإنسان أن التزامه بأمر ما يعني كثيرًا لمن حوله؛ إذ قد عقدوا الآمال عليه.
وفي حياة الإنسان، “الالتزام الروحيّ” الذي يرتبط بعلاقة الإنسان بالله التي بلا شك تنعكس علي حياته مع الآخرين؛ فكما ذكرنا سابقـًا: إن الشخص الملتزم يكون كذٰلك في جميع جوانب حياته؛ وإذا حدث ووجد نقصـًا ما في أحدها، يسارع إلي إكماله والرجوع إلي الالتزام في هٰذا الجانب. والالتزام الروحيّ هو تمسك دائم بوصايا الله وطاعته مثل “إبراهيم” خليل الله. ويتحقق الالتزام من فَهم وصايا الله مع وجود رغبة في اتّباعها؛ فيُلزم الإنسان نفسه بالسير حسبها في: عمل الخير، والرحمة، وتحقيق العدل لجميع البشر، والمحبة، واحترام الآخر. فالله ـ جل جلاله ـ هو مصدر كل خير، والتزامنا نحو وصاياه هوالتزام بالخير؛ فهو يشرق شمسه علي الجميع، ويهب خيراته للكل، مانحًا كل إنسان الفرصة أن يسلك بحسب ذٰلك الخير.
وتحض جميع الأديان الإنسان علي الالتزام في كل ما يُوْكل عليه في حياته. وهنا أحب أن أوضح أن هناك كلمتين ظاهرهما سلوك واحد، إلا أن دوافعهما تختلف كل الاختلاف، وهما: “الالتزام” و”الإلزام”. فالالتزام ينبَُِع من داخل الإنسان، وسببه محبته لما يفعل أواقتناعه العقلي والقلبيّ به. أمّا الإلزام، فيأتي إلي الإنسان من خارجه مضطرًا إليه أومفروضًا عليه، بالقانون أوالقوة؛ لذا يؤديه: نتيجة خوف من العقاب، أورغبة في المجازاة، أوتحقيقـًا لمصلحة مُلحة؛ وهوما يُفقد الشيء محبة الالتزام به، أويجعل الالتزام به أمرًا شكليًا فقط، فيتركه الإنسان بمجرد انتهاء الضغوط الخارجية، أواكتمال ما يصبوإليه من فائدة، أويلتف حول الاستمرار في تنفيذ ذٰلك الإلزام للتنصل منه!
إلا أنه يجب أن نُدرِك أن الالتزام قد يبدأ إلزامـًا، ثم يتحول تدريجيـًّا إلي التزام، بعد أن يدرك الشخص فائدة ما يقوم به، ويتذوق النجاح في أمور حياته نتيجة التزامه؛ فيسعي نحو تحقيق مزيد من النجاح والتميز برغبة خالصة منه في مزيد من الالتزام الذي يضعه لنفسه، فينطبق عليه القول: “إذا لم تعمل ما تحب، فأحبب ما تفعله.”. فربما تجد جمالًا فيما تؤديه ملتزمـًا لم تكُن تراه، ويثير فيك أشواقـًا إلي تحقيق إنجازات عظيمة في حياتك! وهٰكذا تجد سعادة في أن تكون ملتزمـًا نحو: الله، والآخرين، ونفسك.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ