تحدثنا في مجموعة المقالات السابقة عن الترك في حياة الإنسان: أولاً عن الجانب الإيجابيّ فيه، ثم عن سلبية ترك الإنسان لله ولأسرته ولصديقه، ثم أفردنا مقالتين عن الصديق الحقيقيّ. واليوم، أود أن أكتُب عن خطورة تخلي الإنسان عن مبادئه في الحياة.
من أصعب أنواع التخلي في حياة الإنسان هي أنه يترك أو يتخلى عن المبادئ والقيم الحقيقية التي تحدثت عنها الأديان وعرَفتها الإنسانية الحقة، تلك القيم الصادقة التي تحمل في أعماقنا بُذور إنسانيتنا. فالمبادئ هي تلك الصخرة التي ترتفع بالإنسان وبمستوى إنسانيته إلى تلك المكانة التي خلقه عليها الله. وفي هٰذه الأيام يئن العالم من وطأة الألم والقسوة والحُروب والصراعات، فإننا عندما ننظر أشخاصًا امتلأ قلبهم: بالمحبة، والرحمة، والأمانة، والإخلاص، والعدل … إلخ من المبادئ؛ فإننا ننظر بشرًا صاروا كومضات ضوء في الحياة يحلقون في سمائها، إذ أدركوا سر إنسانيتهم العظيمة.
إن التخلي عن المبادئ لن يخلف وراءه إلا عالَمًا يندفع نحو الدمار إذ تختفي منه معالم الحياة الحقيقية، ويسعى البشر فيه كلٌّ في الاتجاه الذي يهواه فيدمرون بعضهم بعضًا! فكيف تكون صورة العالم عندما: تختفي منه المحبة وتسوده الكراهية، أو يتوه في جنباته العدل، أو تذهب منه الرحمة بلا عودة؟ وهنا أتذكر كلمات المتنيح “البابا شنوده الثالث”: “ازرع الحب في الأرض تصبح الأرض سماءً. انزِع الحب من الأرض تصبح الأرض قبرًا”.
وماذا عن الشعوب التي تتخلى عن مبادئها؟ يقول الرئيس الأمريكيّ الأسبق “أيزنهاور”: “الشعب الذي يضع امتيازاته فوق مبادئه سَُِرعان ما يفقد كلتيهما”. وهنا أتذكر قصة حدثت لإحدى السيدات في “ألمانيا” بعد أن خسَِرت الحرب العالمية الثانية بأيام: ففي إحدى مَِحطات القطار الألمانية، قام أحد الرجال بمحاولة تخطي دَور الآخرين في صف الانتظار، فأوقفته إحدى السيدات وقالت له: “لقد خسَِرنا الحرب، ودُمرت مدننا، وفقدنا شبابنا، واغتُصبت بناتنا، ولٰكننا لم نفقد أخلاقنا؛ وبهٰذه الأخلاق سنبني «ألمانيا» من جديد فارجع إلى مكانك!!”.
أمّا من يقرر مِن البشر ترك مبادئه، فقد قرر أن يخسَِر الحياة؛ إذ بالمبادئ في حياته على الأرض يصير إنسانًا ويقدم كثيرًا إلى الإنسانية؛ وبالمبادئ في حياته بعد الموت، يجازى عن ذٰلك الخير الذي قدَّمه. يقول الكاتب الأديب “توفيق الحكيم”: “المصلحة الشخصية هي دائمًا الصخرة التي تتحطم عليها أقوى المبادئ”. ولٰكن في نهاية الأمر، لا نجد من يتخلى عن مبادئه لأجل مصلحة أو منفعة إلا وقد خسَِر كلتيهما! وخسَِر أيضًا احترامه وتقديره لذاته! وهٰذا أقسى ما يمر بإنسان في الحياة!!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبط الأُرثوذكسيّ