No Result
View All Result
تحدثنا في المقالة السابقة عن قدرة الإنسان الحكيم علي إدراك المشكلة وأسبابها الحقيقية، إذ لا يكتفي بقراءة العنوان بل يغوص فيما وراءه كشخص متعمِّق بعيد كل البعد عن السطحية. أيضًا الحكيم الحقيقي هو من يستطيع بحكمته ربح من يعاملهم مهما كان علي اختلاف معهم، لمحبته وتفهمه واحتماله، بل يستطيع في تفهمه واحتماله أن يساعد الآخرين بدورهم علي تفهم رأي من حولهم واحتمال مواقفهم أيضًا.
والحياة هي رحلة يتعلم فيها الإنسان ـ مَن يسعي لاقتناء الحكمة ـ مِن كل موقف يمر به، كما أيضًا من كل إنسان يلقاه. إنه يحمل محبةً وتقديرًا واهتمامًا داخل قلبه للجميع، يتعلم من الجميع ويتشارك هو والجميع. يمد يديه بالمساعدة إلي كل من يلتقيه مدرِكًا كلمات الملك الحكيم سليمان: »ارمِ خبزك علي وجه المياه فإنك تجده بعد أيام كثيرة«. لذا تجد الحكيم يسعي إلي التعلم، والمشاركة هو وكل من يلتقيهم في دروب الحياة.
قرأتُ عن أحد الملوك ـ وكان محبًا جدًا لشعبه ـ أنه في إحدي الليالي خطَرت له فكرة، وهي أن يبدل ثياب المُلك ويرتدي ثوبًا رخيصًا يلتقي فيه فقراء شعبه متخفيًا، يحادثهم ويستمع إليهم. وفي الحال قام بتنفيذ فكرته ونزل إلي الشوارع يلتقي شعبه بنفسه والفقراء منهم خاصة، يتعرف إليهم كما يتعرف أفكارهم وأحوالهم.
كان الملك يخرج خُِفية من باب القصر الخلفي دون أن يعرف أحد. وفي أحد الأيام بعد خروجه من القصر، وفي أثناء تجوله في الشارع التقي صيادًا فقيرًا يرتدي ثوبًا مهلهلًا. كان الصياد يجلس في الظلام وقد أوقد أمامه نارًا في بعض عيدان حطب جمعها ليشوي عليها بعض السمكات الصغيرة القليلة ليتعشي بها. اقترب منه الملك وحياه بابتسامة ثم جلس إلي جواره. بدأ الملك بالحديث إلي الصياد وقد استراح الصياد لحديثه، وطال الحديث بينهما حتي دعاه الصياد لأن يشاركه الطعام. أظهر الملك شعوره له بالامتنان وقبِل دعوته، وطفِقا يتحادثان وهما يتناولان الطعام.
تحدث الصياد عن صيد السمك، ثم روي قصصًا من حياته، وانتقل بالحديث عن أحوال المملكة، وكان الملك يُصغي إليه باهتمام شديد ويعلق بكلمات قليلة وبسيطة تصحح له مفاهيمه. وفي نهاية الجلسة قال الصياد للملك: إني سعيد بك يا صديقي العزيز، وكنت أود أن أقضي وقتًا أطول معك، لكن يجب أن أعود إلي أسرتي. سأكون سعيدًا إذا التقينا مرة أخري. شكره الملك قائلاً: إني أشكرك أيها الأخ العزيز، فإنني سعدت بالأكثر بلقائك والتعرف إليك. لقد صار لي صديق مملوء لطفًا وحكمة إلي جانب كرم ضيافته واتساع فكره وانفتاح قلبه. إني اشتاق أن أراك كل ليلة وأتمتع بحديثك.
عاد الملك إلي قصره فرحًا، وكرر لقاءه والصياد عدة مرات حتي أصبحت هناك محبة وصداقة تربِطهما. وفي إحدي الليالي والملك في طريقه إلي الصياد، قرر أن يعلن شخصيته للصياد، فهو قد يحتاج إلي معونة وخدمة فيطلبهما، ولا سيما عندما يعرف أنه الملك. وكان الملك يفكر طول الطريق كيف أن الصياد سيسعد حين ما يعرف حقيقة شخصه، وكيف أنه سيمْكنه أن ينال كل ما يتمني. لقد شعَر الملك بسعادة بالغة لأنه سيقوم بإسعاد صديقه الصياد هو ومن حوله.
وبالفعل كشف الملك عن حقيقة شخصيته إلي الصياد، فما كان من الصياد إلا أن أصابه الذهول والارتباك! ولكن الملك تحدث معه ببشاشته المعهودة، وسأله أن يطلب ما يحتاج إليه هو ومعارفه. نظر إليه الصياد بنظرة محبة وقال له: لقد سمعتُ كثيرًا عن محبة جلالتكم وسخائكم تجاه شعبكم، ولم أكُن أتخيل أنكم تأتي إليَّ لتشاركني كل هذه الأوقات السعيدة. لقد قدَّمتم خِدْمات وهدايا كثيرة إلي كثيرين، أمّا أنا فكنت أكثرهم حظًا، إذ قدمتم لي نفسك لأقتنيك صديقًا وأخًا! وطلبتي إليك هي ألا تتراجع عن صداقتنا ولا تحرمني إياها! دُهش الملك لأن الصياد الفقير لم يطلب شيئًا من بين كل غني الملك، إنما طلب الملك نفسه صديقًا له!
No Result
View All Result