يقولون “الحياة رحلة فخطط لها جيدا”… وأهم مقومات نجاح هذه الرحلة “الحكمة”. لذا ظلت البشرية عبر عصور الحياة تفتش في كل الدروب عن الحكمة التي أدرك الإنسان أنه لا غني عنها، فتساءل أيوب البار : “أما الحكمة فمن أين توجد وأين هو مكان الفهم”، وبمرور الأزمان أدرك البشر أهمية الحكمة وقيمتها التي تفوق الجواهر واللآلئ وقال الحكيم ” لأن الحكمة خير من اللآلئ وكل الجواهر لا تساويها”، وأيضا: “…تحصيل الحكمة خير من اللآلئ”. وقد طوب الكتاب المقدس الإنسان الحكيم في سفر الأمثال “طوبي للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم”.
ونجد اهتمام الآباء الشديد باكتساب “الحكمة”، وأطلقوا عليها تعبير “الإفراز”، أي قدرة الإنسان علي الفرز ما بين الخير والشر، واعتبروه أهم وأقدر الفضائل علي حفظ الإنسان من فخاخ العدو. فقال أحد الآباء: حقًا إن كل الفضائل نافعة ويحتاج إليها كل الذين يطلبون الله ويريدون التقرب إليه، إلا أن أهم هذه الفضائل “الإفراز”، فبه يفحص الإنسان سلوكه وأقواله وأعماله، ويفهم الإنسان الأمور ويميز الجيد منها والردئ.
ولم يتوقف الفلاسفة علي مر العصور من إبراز أهمية الحكمة لحياة وسعادة الإنسان، فعلي سبيل المثال لا الحصر وضع أفلاطون “الحكمة” أول الفضائل الأربعة في حياة الإنسان: الحكمة، والعدالة، والشجاعة، والإعتدال، كما وصف سوفوكليس الحكمة بأنها “أسمي درجات السعادة”.
ولكلمة “الحكمة” العديد من المرادفات منها “المعرفة” و”التعقل” و”الفطنة” و”الفهم”. ويُعَّرف البعض الحكمة بأنها: وصول الإنسان إلي غايته وهدفه من خلال الوسائل الصحيحة والمناسبة. وقد ذُكرت كلمة “حكمة” ومشتقاتها في الكتاب المقدس أكثر من 350 مرة، مما يوضح أهميتها الشديدة لحياة الإنسان. وقد طالبنا الله – جل جلاله – بالحكمة وقال “كونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام”. ووضع الحكمة أولاً قبل البساطة. ويقول أحد الآباء لأن الحكمة درع أمان وحماية لبساطة الإنسان. أيضاً ذُكرت الحكمة في مثل “وكيل الظلم” الذي تصرف بحكمة عندما طلب منه سيده أن يعطي حساب وكالته، ومثل آخر علي النقيض منه هو “الغني الغبي” الذي لم يتصرف بحكمة عندما اهتم بالعالم ومخازنه ناسيًا أمر حياته الأبدية فلم يعمل لأجلها.
– مصادر الحكمة
مصدر الحكمة هو الله “كلي الحكمة” فيقول: “عنده الحكمة والقدرة. له المشورة والفطنة.”، فالله وحده يعلن خفيات الحكمة للإنسان وفي هذا قال العظيم في الأنبياء إرميا ” ادعني فأجيبك وأخبرك بعظائم وعوائص لم تعرفها”. وأيضاجاء في سفر أيوب “ويعلن لك خفيّات الحكمة … “والله هو الذي يهب الحكمة للإنسان، وقال الحكيم “لأن الرب يعطي حكمة. من فمه المعرفة والفهم”.
وللإنسان أيضًا دور في اقتناء الحكمة وسعيه لإكتسابها من خلال: المشورة ومرافقة الحكماء والقراءة والتأمل والخبرة
– المشورة:
يوصي الحكيم بالاستماع إلي المشورة وقبولها لأنها الطريق إلي الحكمة “اسمع المشورة واقبل التأديب لكي تكون حكيما في آخرتك.”، فالإنسان الذي يقبل المشورة هو إنسان يسعي للمعرفة الحقيقية الصادقة ويقبل أن يتعلم ممن حوله، وهو علي النقيض من الإنسان الجاهل المتمسك برأيه فقط ظناً أنه هو الوحيد الصحيح، وقال أيضًا أن “طريق الجاهل مستقيم في عينيه. أما سامع المشورة فهو حكيم.” و”حيث لا تدبير يسقط الشعب. أما الخلاص فبكثرة المشيرين”.
ولكن لمشورة مَنْ يستمع الإنسان؟ يحتاج الإنسان أن يستمع لمشورة من لهم الحكمة والمعرفة والخبرة حتي تكون مشورتهم حسنة وتكون السبيل ليتعلم منها الحكمة. فعلي سبيل المثال، أخذ رحبعام بن سليمان مشورة الأحداث وترك مشورة الشيوخ الحكماء فأدي هذا لإنقسام مملكة أبيه سليمان. يقول المثل “اختر الرفيق قبل الطريق” فمصاعب طريق الحياة تبددها حكمة الرفقاء. وهذا يقودنا إلي النقطة التالية
– مرافقة الحكماء:
يقول الحكيم “المساير الحكماء يصير حكيمًا ورفيق الجهال يضر”، ويقولون “أرني صديقك فأقول لك من أنت”، لذا يجب عليك أن تختار في غمرة الحياة ومشكلاتها أشخاصاً يساعدونك علي التفكير الحكيم والقدرة علي اتخاذ القرارات الصائبة في الأوقات المناسبة حتي لا تتعثر في الطريق. اختار الإبن الضال أن يكون رفيقا للجهال فخسر كل شيء ولم ينقذه إلا عودته لأبيه وتوبته، وقصة الإبن الضال تتكرر آلاف المرات في حياتنا، فقل مع الشاعر
عاشِـرْ أُنَاسـاً بِالـذَّكَـاءِ تَمَيَّـزُوا وَاخْتَـرْ صَدِيقَكَ مِنْ ذَوِي الأَخْـلاقِ
– القراءة والتأمل:
حينما تقرأ فأنت تفكر مع شخص آخر بدلاً من نفسك، لذا فالقراءة مجال خصب لتنمية الحكمة، وقد قال البعض أن “القراءة تصنع الرجال”، وعندما سُئل أرسطـو: كيـف تحكم علي إنسـان؟ أجـاب: “أسأله كم كتاباً يقرأ وماذا يقـرأ؟”. والقراءة يجب أن تكون في أنواع متعددة من الثقافة والمعارف ليمتلئ عقل الإنسان وفكره بكل ما هو صالح ومفيد لمعرفته.
فمن أسباب معوقات الحكمة قلة المعرفة في أمر ما مما يجعل الإنسان يسلك سلوكا خاطئا قد تترتب عليه نتائج لا يمكن اصلاحها، لذا كلما قرأت كلما اتسع أفقك وذهنك لتعرف كيف يفكر الآخرون، كما أن تأملك فيما تقرأ ينمي قدرتك علي الاختيار الصحيح لكل ما تقرأ.
– الخبرة:
فالخبرات التي يمر بها الإنسان أو من حوله تُزيد حكمة الإنسان عادة بتقدمه في الأيام، وأيضا تُكسبه مزيداً من الحكمة “عند الشيب حكمة وطول الأيام فهم”، ولكن قد يحدث في بعض الأحيان أن يكون الشاب أحكم من الشيخ لما قد يكون مر به من خبرات أكسبته الحكمة. فقد كان يوسف الصديق ودانيال أحكم من الكثير من الشيوخ.
وللحديث بقية