تحدثنا في المقال السابق عن الحكمة وأنها الجوهرة الكثيرة الثمن التي بحثت عنها البشرية عبر العصور، ثم عرضنا أن مصدر الحكمة هو اللَّه كلي الحكمة وهو الذي يهبها للإنسان الذي يُنميها من خلال المشورة الحكيمة ومصادقة الحكماء، ومن القراءة والتأمل والخبرة التي يكتسبها الإنسان بالتجارب التي يمر بها هو أو الآخرون. واليوم نتحدث عن أنواع الحكمة وصفات الحكيم.
أولاً: أنــواع الحكمــة:
للحكمة نوعان: الحكمة الأرضية، النفسانية، الشيطانية، والحكمة السمائية. وقال الكتاب “ليست هذه الحكمة نازلة من فوق بل هي أرضية نفسانية شيطانية. لأنه حيث الغيرة والتحزب هناك التشويش وكل أمر رديء. وأمّا الحكمة التي من فوق فهي أولاً طاهرة، ثم مسالمة، مترفقة، مذعنة، مملوءة رحمة وأثمارًا صالحة، عديمة الريب والرياء”.
والحكمة الأرضية تقترب من الدهاء أو الذكاء الشرير، وقد يكون لها نتائج تُبهر للبعض إلا أن هذه النتائج مؤقتة وفاسدة. فمثلاً خطة أبشالوم ضد داود أبيه ليستميل قلب الشعب إليه ويأخذ الحُكم لنفسه؛ فبالرغم من نجاح هذه الخطة في بدايتها وهروب داود من وجه ابنه أبشالوم إلا أنها آلت في النهاية إلى موت أبشالوم.
فالحكمة البعيدة عن اللَّه تسبب تحزبات وتشويش ونتائج سيئة؛ مثل أن يستخدم شخص ذكاءه لاستبعاد أو إيذاء زميل له في العمل أو الدراسة أو السكن، أو الوصول إلى مركز لا يستحقه؛ فحتمًا ستكون النهاية مؤلمة؛ يقول الحكيم: “لا أسير مع من يذوب حسدًا؛ لأن مثل هذا لا حظ له في الحكمة”.
أما الحكمة السمائية فهي طاهرة وتسعى إلى السلام، ممتلئة بالترفق والرحمة لكل إنسان، وفي النهاية نتائجها صالحة للكل.
وهذا يتضح في حكمة يوسف فاستطاع أن يُنقذ أرض مِصر من المجاعة الشديدة التي أصابت الأرض. وأيضًا حكمة أبِِيجايِِل في حديثها مع داود النبي حينما أراد قتل زوجها نابال الذي استهزأ بداود أثناء هربه من وجه شاول الذي كان يطارده، فحينما علمت أبيجايل بما فعله نابال، أسرعت بلقاء داود وبحكمة كلامها جعلته يكُفّ عن إتيان الدماء حتى إنه قال لها: “.. مبارك عقلك، ومباركة أنتِ، لأنكِ منعتِني اليوم من إتيان الدماء وانتقام يدي لنفسي … إنكِ لو لم تبادري وتأتي لاستقبالي لَمَا أُبقِيَ لنابال إلى ضوء الصباح بائل بحائط”.
قد يعتبر البعض أن الحكمة السمائية هي نوع من الضعف أو غير مناسبة للزمن الحاضر، وقد تبدو للبعض غير منطقية أو ضعيفة، ولكن أثبتت كل المواقف في كل زمان أن نتائجها النهائية خير للجميع.
ثانيًا: صــفات الحكيــم:
الشخص الحكيم يكون متواضعًا.
سُئل سقراط: لماذا اختير أحكم حكماء اليونان؟ فقال: ربما لأنني الرجل الوحيد الذي يعترف أنه لا يعرف!
إن العلاقة بين الحكمة والتواضع علاقة وثيقة، فيقول الحكيم: “تأتي الكبرياء فيأتي الهوان. ومع المتواضعين حكمة” .
يقولون إن المعرفة تفتخر بأنها تعرف الكثير بينما الحكمة متواضعة في أنها تُدرك حجم ما تعرفه. كما يقولون أيضًا إن الإنسان يتعلم الحكمة من خلال التواضع. وكلما ازداد الإنسان تواضعًا ازداد حكمة.
الإنسان الحكيم أيضًا هو إنسان طويل البال وصبور.
فيذكر الكتاب عن موسى النبي الذي تهذب بكل حكمة المصريين والذي وهبه اللَّه حكمة خاصة جدًا ليقود الشعب: “وأمّا الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض”.
ويقول أحد الآباء إن الصبر هو رفيق الحكمة. وقال أحد الحكماء: “إن كل حكمة البشر يمكن تلخيصها في كلمتين “الصبر” و”الأمل”.
صفة أخرى يتصف بها الإنسان الحكيم وهي “الوداعة”.
يقول الكتاب: ” من هو حكيم وعالم بينكم، فليُرِ أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة”، فالحكمة تتصف بالوداعة والشخص الحكيم هو شخص وديع؛ ولذلك هو أيضًا يستطيع ربح النفوس بوداعته؛ “رابح النفوس حكيم”.
والإنسان الوديع شخص مريح يتعامل بعطف ومودة مع كل من يقابله فيكسب كل إنسان، وإن حدث وأهانه أحد يرد على الإهانة بالصبر والمحبة والاعتدال.
تحضرني قصة قرأتُها عن عجوز حكيم جلس على ضَفة النهر متأملاً فيما حوله من جمال، وفجأة لمح عقرباً وقع في الماء. أخذ العقرب يتخبط محاولاً أن يُنقذ نفسه من الغرق؟! فقرر الرجل أن يُنقذه، وحينما مدّ له الرجل يده لَسَعَه العقرب وهو ما جعله يسحب يده صارخًا من شدة الألم، ولكن لم تمضِ سوى دقيقة واحدة حتى مدّ يده ثانية ليُنقذه .. فلسَعه العقرب. وبعد دقيقة راح يحاول المرة الثالثة!
وكان يجلس على مقربة منه رجل آخر يراقب ما يحدث ؟؟ فصرخ به الرجل: أيها الحكيم، لماذا لم تتعظ من المرة الأولى ولا من المرة الثانية، وها أنت تحاول إنقاذه للمرة الثالثة؟! لم يهتم الحكيم لتوبيخ الرجل، وظل يحاول حتى نجح في إنقاذ العقرب.
ثم مشى في اتجاه ذلك الرجل، وربَّت على كتفه قائلاً: يا أخي، من طبع العقرب أن “يلسع”، ومن طبعي أن “أُحب وأَعطف”، فلماذا تريدني أن أسمح لطبعه أن يتغلَّب على طبعي؟!!
هذه بعض الصفات التي يتصف بها الإنسان الحكيم وكما قال سليمان الحكيم “تمنيتُ فأوتيتُ الفطنة، ودعوتُ فحل علىَّ روح الحكمة. ففضَّلتُها على الصوالجة والعروش، ولم أحسب الغنى شيئا بالقياس إليها، ولم أعدل بها الحجر الكريم، لأن جميع الذهب بإذائها قليل من الرمل والفضة عندها تحسب طينا”، و …. وللحديث بقية