تحدثنا في المقال السابق عن الفرق بين الحكمة والذكاء، وبين الحكمة والمعرفة، كما عرضنابعض المجالات الهامة التي تظهر فيها حكمة الإنسان؛ مثل: الكلام، والوقت، والتدبير. ثم قدَّمنا شخصيتين اتسمتا بالحكمة، وهما: سُلَيمان الحكيم، ويوسف الصدِّيق.
واليوم نكمل حديثنا عن الحكمة بين الصمت والكلام.
إن الحديث عن الصمت يقودنا إلي صفة هامة من صفات الحكيم، وهي أنه: مستمع جيد.يقولون: “من لديه المعرفة يتحدث، ولكن من لديه الحكمة يستمع.”، وأيضًا: “تكلمْ ببطء، لكن فكِّر بسرعة”. فعندما يتوقف الإنسان ويتريث قبل أن يتحدث، يستطيع أن يفكر بعمق أكثر، ويزن كل الأمور حوله قبل أن يقدِّم النصح والإرشاد.
وبهذا تُعتبر معرفة الطريق إلي الاستماع ـ أكثرُ من التحدث ـ هي من أهم الصفات والتدريبات التي يجب أن يسعي الإنسان إلي اكتسابها في رحلة حياته. وفي هذا قيل: “ليكُن كالانسان مسرعًا في الاستماع، مبطئًا في التكلم، مبطئًا في الغضب ..”.
يقول الكتاب: “من يحفظ فمه ولسانه، يحفظ من الضيقات نفسه.”، فالحكيم حينما يتكلم، فإن كلماته تحفظه لأنه يعي ما يقول، ويقوله في الوقت المناسب؛ “في فم الجاهل قضيب لكبريائه، أمّاشفاه الحكماء فتحفظهم”. فكثير من الضيقات التي يتعرض لها الإنسان هي بسبب الكلمات التي يتفوه بها فيخسَر سلامه وهدوءه.
ووصف الحكيمُ تعجُّل الإنسان في الكلام والحديث بأنه يضعه في مرتبة أقل من الجاهل:”أرأيتَ إنسانا عجولاً في كلامه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به.” ، بل اعتَبر أن كثرة الكلام ليست دليل الحكمة، بل علي النقيض من ذلك هي صفة من صفات الشخص الجاهل: “والجاهل يكثِّرالكلام.”
وحذر الحكيم من كثرة الكلام؛ حيث إنها تقود إلي الخطأ فقال: “كثرة الكلام لا تخلو من معصية، أمّا الضابط شفتيه فعاقل.”
وكم من أناس ندِموا أشد الندم علي كلمات قيلت! بل إن هناك من دفعوا حياتهم ثمنًالكلماتهم!! يحكي لنا الكتاب أنه عند موت شاوُل الملك، جري غلام ليُخبر داود بموت شاوُل؛ وبأنه هو الذي قتله. أسرع الغلام ليبشر داود، فما كان منه إلا أن أمر بقتله لأنه قتل شاوُل الملك، “ثم دعاداود واحدًا من الغِلمان وقال: اتَقدَّم. أوقِع به«. فضربه فمات. فقال له داود: »دمك علي رأسك لأن فمك شهِد عليك ..”.
ومن القصص الطريفة التي قرأتُها عن الصمت، أنه حُكم علي ثلاثة أشخاص بالإعدام بالمِقصلة، وكان أحدهم عالِم دين، والآخر محاميًا، أمَّا الثالث فكان فيزيائيًا. وعند لحظة الإعدام تقدَّم عالم الدين ووضعوا رأسه تحت المِقصلة، وسألوه: هل تَوَدّ قول كلمة أخيرة قبل تنفيذ الحكم؟فقال: الله هو من سيُنقذني. نزِلت المِقصلة، وعندما وصلت لرأس عالم الدين توقفت! فتعجب الناس،وقالوا: أطلِقوا سراح عالم الدين فقد قال الله كلمته! ونجا عالم الدين .جاء دور المحامي، فسألوه: هل هناك كلمة أخيرة تَوَدّ قولها؟ فقال: أنا لا أعرف الله كعالم الدين، ولكن أعرف أكثر عن العدالة، وهي من سيُنقذني. نزَلت المِقصلة علي رأس المحامي، وعندما وصلت إلي رأسه توقفت أيضًا! فتعجّ بالنّاس وقالوا: أطلِقوا سراح المحامي، فقد قالت العدالة كلمتها! ونجا المحامي.
وأخيرًا جاء دور الفيزيائي .فسألوه: هل تَوَدّ أن تقول شيئًا؟ فقال: أنا لا أعرف الله كعالم الدين، ولا أعرف العدالة كالمحامي، ولكني أعرف أن هناك عقدة في حبل المِقصلة تمنع المِقصلة من النزول!! فنظروا للمِقصلة، ووجدوا فعلاً عقدة تمنع المِقصلة من النزول، فأصلحوا العقدة وأنزلواالمِقصلة علي رأس الفيزيائي وقُطع رأسه! والسؤال الآن: ماذا سيكون مصير الفيزيائي لو كان قدصمت؟!
وللكلام خطورته؛ حيث إنه يكون سببًا لتبرير الإنسان أو إدانته. يُحكي عن أحد الأشخاص أن أحد أصدقائه اقترض منه مبلغا من المال، ولكن لرغبته في عدم إعادة المال أنكر أنه أخذه. فذهب صاحب المال إلي القاضي الذي سأل المقترض فأنكر. فطلب القاضي من صاحب المال أن يذهب إلي المكان الذي أعطي صديقه فيه المال ، ويُحضِر حَفنة من التراب! تعجب الرجل، ولكنه أطاع كلمات القاضي. وبعد مرور فترة من الوقت، سأل القاضي الرجل الذي أخذ المال: هل تعتقد أنه وصل إلي المكان؟ فأجاب دون أن يفكر: لا أعتقد، فالمكان بعيد جدًا. فعرَف القاضي صدق دعوي الرجل، وحكم له باسترداد ماله.
وعن خطورة الكلام وأنه يبرر ويدين، قيل: “.. لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان”. وجاء في مَثل الوزنات أن السيد أعطي عبيده وزنات ليتاجروا ويربحوا بها، ثم سافر. وحينما عاد وجد أحدَهم قد دفن وزنته متهمًا السيد بأنه ظالم؛ لأنه يطلب الوزنات بأرباحها. فقال له السيد: “.. من فمك أدينك أيها العبد الشرير. عرَفتَ أني إنسان صارم، آخُذ ما لم أضع، وأحصُد ما لم أزرع ..”.
ولذا يتوقف الحكيم ويدرس ويفكر جيدًا قبل أن يتكلم؛ حيث إن الكلمات التي تُقال لا يمكن استعادتها مرة أخري، أو تغيير تأثيرها في أنفس البشر.
كان هناك طفل كثيرًا ما كان يغضَب ويُخطئ بتوجيه كلمات جارحة إلي الآخرين. وفي أحد الأيام أعطاه والده كيسًا ممتلئًا بالمسامير، وقال له: قم بطَرق مسمار واحد في سور الحديقة في كل مرة تتفوه فيها بكلمة جارحة علي أحد. في اليوم الأول، قام الولد بطرق 37 مسمارًا في سور الحديقة. وحاول الطفل أن يتدرب علي التحكم في نفسه حتي لا يشوه سور الحديقة. فبدأ عدد المسامير يقل تدريجيًا يومًا بعد يوم.
وبعد فترة، أتي اليوم الذي لم يَطرُق فيه الولد أيّ مسمار في سور الحديقة. حينئذ ذهب ليُخبر والده أنه لم يعُد بحاجة إلي أن يَطرُق أيّ مسمار . قال له والده: الآن قُم بخلع مسمار واحدإزاء كل يوم يمر بك دون أن تتفوه بكلمة جارحة. مرت عدة أيام، وأخيرًا تمكن الولد من إبلاغ والده أنه قد قام بخلع كل المسامير من السور.
فما كان من الوالد إلا وأن قام باصطحاب ابنه إلي السور، وقال له: لقد أحسنتَ التصرف يا ابني! ولكن، اُنظر إلي هذه الثقوب التي تركتَها في السور .. إنها لن تعود أبدًا كما كانت!!
عندما تحدُث بينك وبين الآخرين مُشادَّة أو خلاف، وتخرج منك بعض الكلمات الجارحة، فأنت تتركهم بجُرح في أعماقهم كتلك الثقوب التي رآها الولد، ولن تستطيع إصلاح مكانها. لذا يقولون: ربما ينسي الآخرون ما قلتَ لهم، ولكنهم لن ينسَوا أبدًا ما جعلتهم يشعرون به.
إن أردتَ أن تصير حكيمًا، فدرِّب نفسك علي أن تكون مستمعًا جيدًا؛ ففي الاستماع الكثير يتعلم الإنسان العديد من الصفات التي تَزيده حكمة؛ مثل: العمق في التفكير، والصبر، وحُسن الحُكم علي الأمور، وإدراك قيمة الصمت وتأثير كل كلمة تخرج منك.
والحكيم لا يصمُت في الوقت الذي ينبغي فيه الحديث، وكذلك لا يتحدث في الوقت الذي ينبغي فيه الصمت. وفي هذا مقال آخر ..
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ