تحدثنا في المقال السابق عن الحكمة بين الصمت والكلام، وعن إحدي صفات الحكيم الهامة وهي أنه مستمع جيد، وأنه بكلماته المناسبة في الوقت المناسب يحفظ نفسه من الضيقات، مع معرفته بتأثير كل كلمة ومدي خطورتها. والحكيم حينما يتحدث فهو يختار وقتًا لكلامه، وأيضًا الكلمات المناسبة للموقف والأشخاص، فتكون كلماته دائمًا للبناء والخير والسلام. إنه يتحدث بالحق وعن الحق دون أن يجرح أحدا. الإنسان الحكيم يستطيع التحكم في نفسه، فهو لا يندفع في الكلام بسبب تصرفات شخص يستثيره بل يمكنه ضبط نفسه ولسانه. يقولون: “إن الحكمة هي الجائزة التي يحصِل عليها الإنسان في رحلة الحياة من الاستماع، في الوقت الذي كان يفضَّل فيه الحديث”؛ أيْ إنه كلما أراد التحدث، توقف ليستمع بالأكثر. فهذا الإنسان استطاع أن يدرب نفسه علي التوقف عن الكلام وعلي الاستماع بصبر؛ في وقت كان يرغب فيه الحديث. مثل هذا الإنسان يمكنه ضبط نفسه وإنقاذ الأمور من التفاقم والنتائج السيئة. تعبّر القصة التالية عن هذه الفكرة بأسلوب رمزي. كان السائق يسير بسرعة، وفجأة اعترض طريقه طفل يعبر الشارع، إلا أن السائق تمالك نفسه وضغط علي مكابح (فرامل) السيارة، ولم يُصِب الصغير بشئ. في الوقت نفسه، كانت تسير أُم وابنتها فقالت لها: لولا أن السائق معه مكابح قوية، ما استطاع أن يوقف السيارة، مما كان سيؤدي حتمًا إلي حادثة. وهكذا اللسان، لا بد أن يكون له ضابط حتي لا ينطق بكلمات قد تدمر. أمّا عن اختيار وقت الكلام فهو هام جدًا. تكلَّم في الوقت الذي يستطيع الآخر أن يفهمك فيه، ويرغب في أن يستمع إلي كلماتك. لا تتحدث إلي الإنسان وهو مرهق أو مشغول أو منفعل؛ فحتمًا ستضيع كلماتك هباء، بل ربما تخسَر هذا الإنسان. أيضًا اختَر كلماتك المناسبة للموقف، ومَن تتحدث إليهم؛ حتي تصل إلي ما تود تحقيقه. يقولون: “لا يكفي أن تعرف ما تقول، ولكن يجب أن تقوله كما ينبغي”. لا تكُن مثل رَحَبْعام بن سُلَيمان الملك حينما كلمه الشعب قائلين: “إن أباك ثقَّل نِيرنا وأمّا أنت فخفِّف من نِيرنا ..”، فكانت إجابته بقساوة علي الشعب: “.. أبي حمَّلكم نيرًا ثقيلاً وأنا أَزِيد علي نِيركم. أبي أدَّبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب.”! فكانت النتيجة انقسام المملكة، ولم يتبع مملكة داود إلا سبط واحد ونصف سبط من أحد عشر سبطًا. في معظم الأوقات يُطلب من الحكيم أن يتحدث كما يُطلب في كلماته ما هو للخير وللبناء؛ أيْ إن كلماته تكون لأجل فائدة مَن حوله، فهي غالية تُفيد طالبها وتعلِّمه ما يُفيد حياته. أتذكر إحدي القصص عن شاب عُيِّن في منجم للفحم، وكان متحمسًا جدًا للعمل فحضر للعمل مبكرًا جدًا قبل الجميع؛ وبدأ العمل بجَد واجتهاد. كان يضرب بأدواته بكل قوة علي الحجارة لاستخراج الفحم. وبعد ساعتين حضر رجل كبير في السن، فقال الشاب في نفسه: سأُنجز أكثر منك أيها العجوز. بدأ العجوز عمله ـ وكان ذا صحة جيدة ـ بالضرب في هدوء. ومرة أخري قال الشاب في نفسه: إنه يضرب بهدوء، وحتمًا سأُنجز أكثر منه، ثم واصل عمله. وفي نهاية اليوم، فوجئ الشاب بأن ذلك العجوز أنجز أكثر منه! قرر الشاب أن يضاعف من جُهده في الغد، وبالفعل عمِل بجِد، ولكن في النهاية أنجز العجوز أكثر منه! بدأ الشاب يفكر ويتساءل عن سر نجاح العجوز أكثر منه، مع أنه يحضُر قبل الآخرين، ويعمل بكل مالديه من قوة؟!! وعندما لم يجِدْ جوابًا قرَّر أن يسأل العجوز؛ فانطلق إليه واستأذنه في أن يحدثه، فرحَّب العجوز. وعندما حدثه عن حيرته، ضحك العجوز وقال: يا بُنيّ، ضَع في الآلة التي تستخدمها الذكاء. وحين ما لاحظ حيرة الشاب قال: يا بُنيّ، ليس المهم أنك تضرب بقوة علي الحَجر، ولا كثرة الضرب ولا طول الوقت. ولكن الأهم من هذا هو: كيف تضرب؟ أين تضرب؟ متي تضرب بقوة؟ فربما ضربة واحدة إلي مكانها الصحيح وبطريقتها الصحيحة وفي وقتها الصحيح تُغنيك عن مائة ضربة! وهكذا كانت كلمات العجوز الحكيم مرشدًا صادقًا لهذا الشاب في حياته.والحكيم حين يتكلم أو يعمل فهو لا يجرح أحدًا. وفي قصة أخري عن باب وحكيم. لقد كان الباب ضخمًا وثقيلاً، ولكن أهل المدينة يُريدون أن يدخلوا!! حاولوا فتحه بالقوة، دفعوه بكل قوتهم، وأخيرًا حاولوا كسره، لكن كل المحاولات باءت بالفشل؛ فالباب صُلب إلي أقصي درجة، وأخيرًا خارت قواهم. حينئذ تقدم حكيم المدينة، وكل الأعين متجهة إليه: ماذا يستطيع أن يفعل هذا العجوز فيما فشِل فيه أهل المدينة؟! فما كان من العجوز الحكيم إلا أن صب قليلاً من الزيت علي مزاليج الباب، فانفتح بيسر. كثيرون يحاولون معالجة المشكلات بالقوة والشدة والعنف والقسوة والبَتر، ولكن في معظم الأحيان تكون الحاجة إلي اللطف الذي لا يُدرِك قوته إلا الحكماء. والحكيم حين يتكلم يصنع سلامًا. يقولون: “حينما تهزم قوةُ المحبة محبة القوة سيعرف العالم السلام.” والإنسان الحكيم يعرف ويُدرك قيمة المحبة المستمدة من الله وقوته، فلا تجده إلا ساعيًا في كلماته أو تصرفاته إلي صنع السلام بين البشر. وحين يُدرك الآخرون أنك صانع سلام، سيكون لكلماتك التأثير الأقوي في كل من يتعامل معك. يذكر الكتاب عن إبراهيم أبي الآباء أنه عندما عرف أن غضب الله معلن علي أهل سدوم وعمورة لكثرة شرهم، تحدث إلي الله لكيلا يُهلك المدينة من أجل الأبرار. وظل إبراهيم في حوار طويل مع الله يسعي نحو السلام والخير. والحكيم لا يصمُت وقت الكلام، وأيضًا لا يتحدث في الوقت الذي ينبغي فيه الصمت. هو يتحدث عن الحق معلنًا إياه من دون جرح أحد؛ حاملاً محبةً لكل إنسان، راغبًا في بناء ورخاء كل مكان يعيش فيه، وسعادة كل إنسان يلقاه.أختم حديثي اليوم بقصة جرت أحداثها في نيويـورك؛ عندما وقف رجل عجوز متهم بسرقة رغيــف خبز قدام حاكم يُدعي زلاجاردياس والذي كان مشهورًا بالحزم والعدل وبالإنسانية معًا. كان العجوز يرتجف خوفًا ويقول إنه اضطُر إلي سرقة الخبز، لأنه كان سيموت جوعًا، فقال له الحاكم : إذًا أنت تعترف بالسرقة، ولذلك أعاقبك بغرامة 10 دولارات! وساد المحكمة صمت ملئ بالدهشة. في تلك الأثناء، أخرج الحاكم من جيبه المبلغ ووضعه في خزينة المحكمة. ثم خاطب الحاضرين وقال: هذه الـ10 دولارات لا تكفي، بل لا بد أن يدفع كل واحد منكم 10 دولارات لأنه يعيش في بلدة يجوع فيها رجل عجوز ويُضطَر إلي سرقة رغيف خبز. وخلع القاضي قبعته وأعطاها لأحد المسئولين، فمر بها علي الموجودين وجمع فيها غرامتهم والتي دفعوها عن طيب خاطر، فبلغت 480 دولارًا أعطاها الحاكم للعجوز مع وثيقة اعتذار من المحكمة!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ