تحدثنا في المقال السابق عن الحكمة بين الصمت والكلام، واختيار الحكيم لكلماته ووقتها، وكيف أنه لا يندفع فيما يقول بل يختار الكلمات المناسبة التي تبني والتي تُقدِّم الخير والسلام لكل إنسان، وأيضًا الحكيم يتحدَّث بالحق دون أن يجرح أحدًا. واليوم نُكمل حديثنا عن الحكمة في مواقف وشخصيات. وإن الحكمة في حياة الإنسان هامة جدًا، وهي صمام أمان لأنْ تكون النتائج علي أفضل ما يكون. فالبشر يحتاجون إلي الحكمة في كل المواقف التي تعترض حياتهم، وهي إن وُجدت تكون سببًا في إسعادهم؛ هم ومَن حولهم، وتؤدِّي بمَن يفتقدها إلي الشقاء والندم.
دعونا اليوم نبدأ في استعراض شخصيات حكيمة في مواقف وكلمات أثَّرت وغيَّرت في مصائر بشر. ولكن أبدأ بهذه القصة التي توقفتُ عندها كثيرًا، ليتردد في فكري كلمات الكتاب: “عنده الحكمة والقدرة. له المشورة والفطنة”، وأيضًا: “الرب بالحكمة أَسَّس الأرض”. لذا ما أعظم ذلك الحكيم الذي ينتظر ويصبر حتي يُدرك بعضًا من حكمة الله كُليّ الحكمة والقدرة!
ذات صباح وجد رجل شرنقة، فـأخذ يراقبها ليري الفراشة وهي تخرج منها. بدأت الشرنقة تهتز. وظهر بها ثَقب صغير، فجلس يُراقب الفراشة عِدَّة ساعات في حين كانت هي تُجاهد لتدفع بجسدها من خلال الثُّقب الصغير. ثم بدا أنها عاجزة عن إحراز المزيد من التَّقدُّم، وأنها لم تَعُدْ قادرة علي الذهاب أبعد مِمَّا فعلت. لذا قرّر الرجل أن يُساعد الفراشة الضعيفة موقِنًا بحكمته، فأسرع بأخذ مِقص وشقَّ به الجزء المُتبقِّي من الشرنقة ليُساعد الفراشة. وبالفعل خرجت الفراشة بسهولة. لكن كانت متورِّمة الجسم ذابلة الجَناحين!
استمرّ الرجل يُراقب الفراشة متوقِّعًا أن يكبر الجَناحان ويمتدا حاملَيْن الفراشة إلي أعلي، ولكن هذا لم يحدُث، بل عجزت عن الطيران وستقضي بقية حياتها زاحفة! فما لم يُدركه الرجل ـ علي محبته وعطفه عليها ـ هو أن الشرنقة المحاصِرة بفتحتها الصغيرة تلك، كانت هي الطريقة الوحيدة التي ستُمكِّن الفراشة من الخروج بل والطيران؛ إذ تضخّ الشرنقة سائلاً في جسمها يسري إلي جَناحيها تستطيع به الطيران والتحليق؛ بمُجرّد أن تظفر بحرّيتها وتخرج منها.
وهكذا الحياة، يجب أن نُدرك سر الحكمة فيها؛ حتي لا نصير نحن ومَن حولنا نزحف علي تراب أحزانها وآلامها غير محلِّقين في سماء بهجتها وأفراحها.
وكما يقول أيوب البار إنَّ: “تحصيل الحكمة خير من اللآلئ”.
دعونا نري كيف أنارت حكمة أُم العالم بأسره.
”أيها الغبي، أيها البليد”.. كلمات اعتاد توماس أن يسمعها من والده، الذي كان يسيء معاملته بشدة؛ حتي إنه ضربه بالسياط في الشارع علي مرأي ومسمع من الجيران في المدينة إمعانًا في تربيته. ولكن الله عوّضه بأُم فُضلَي حكيمة. كان توماس إديسون طفلاً غريب الأطوار، كثير الأسئلة، وكان يهتم بكل ما تمسكه يده. وعندما بلغ الـسابعة، أصيب بحمي قِرمزية أصابته بصمم جزئي. وعندما التحق بالمدرسة لم يبقَ بها سوي ثلاثة أشهر بسبب ما كان يثيره من إزعاج للمعلمين. ثم طرده المدرس من المدرسة لشكّه في قواه العقلية وقدرته علي الدراسة.
تأثر إديسون الصغير وانفجر باكيًا بمجرد وصوله المنزل، وروي لأمه ما حدث، والتي ذهبت لمقابلة المعلم ومناقشته؛ فهي موقِنة بأن لتوماس عقلاً متقدًا وذكاءً شديدًا هما سبب ما يطرحه من أسئلة كثيرة، فكيف يصفه هو بالغباء! فأجابها المُعلِّم بأنه لا يري أثرًا لأي ذكاء في الطفل! أمسكت الأم بيد ابنها وانصرفت وقد قرّرت أن تعلِّمه بنفسها، وأن تجعل منه رجلاً عظيمًا.
تركت الأم عملها كمُدرِّسة وتفرَّغت للعناية بطفلها؛ مقدِّمة له العطف والتقدير وهو ما أعاد الثبات إلي نفسه. حاولت في البداية استخدام الطريقة التقليدية للتعليم، ولكنها سرعان ما أدركت أن هذه الطريقة لا تناسب عقلية ابنها، فتركت له حرية التعلم بطريقته الخاصة. ساعدته علي القراءة، وتحصيل العلم، كما ساعدته علي مطالعة تاريخ اليونان والرومان وقاموس بورتون للعلوم. درس تاريخ العالم الإنجليزي نيوتُن, والتاريخ الأمريكي، والكتاب المقدس، وروايات شكسبير. وكان يحب قراءة قصة حياة العالم الإيطالي جاليليو جاليلي. اهتم توماس بقراءة كل ما يقع بين يديه من كُتب وموسوعات وجرائد ومجلات، وكانت أمه تقتصد وتساعده علي شراء الكتب المستعملة كما عاونته في تنمية مهاراته. بل لا أُبالغ إذا قلتُ: إنها أنمت المجتمع كله والبشرية حتي الآن!!
بدأ العمل وهو في سن الثالثة عشرة؛ بزراعة الخَضروات وبيعها إلي أهالي المنطقة، ثم استأذن والدته في بيع الصحف في قطارات السكك الحديدية، ومكَّنه عمله هذا من الاطلاع علي جميع الصحف والمجلات. كان أول معمل يعمل فيه هو عبارة عن عربة قطار قديمة، ولكن اشتعلت النار في العربة، فتلقَّي صفعة من مفتش القطار سبَّبت له صممًا كاملاً! عاد توماس إلي بيته حزينًا ويائسًا بعد أن ألقي حارس القطار به وبكل أدواته علي الرصيف، ولكن أمه أخذت تُشجِّعه وتبث فيه الأمل حتي استعاد عزيمته واستكمل تجاربه في قبو منزله. ولم يستسلم لعاهة الصمم، بل تفرّغ لتجاربه، واخترع الفونوجراف، ثم ـ أهم اختراع له ـ المصباح الكهربائي الذي أضاء ظلمة العالم.
اتهمه الناس بالجنون في أول الأمر، ثم توالت الاختراعات فقدَّم إلي البشرية أكثر من 1000 اختراع. لكنه لم ينسَ قط فضل أمه ومحبتها وتشجيعها إيَّاه فقال: لقد كان من المُمكن أن يتغيَّر مجري حياتي لو لم تكُن تلك المرأة أمي، فلولاها لَما وُجِدْتُ، ودونها ما تعلمتُ شيئًا، بفضلها أصبحتُ علي ما أنا الآن عليه، هي صانعتي ومَدرستي ومُلهمتي، من أجلها عمِلتُ ونجحتُ وعشتُ وقدّمتُ لها وللإنسانية عصارة فكري وكفاحي!
هذا هو الطفل الذي وصفه أبوه بالغبي البليد وشكَّك المدرس في قواه العقلية، الطفل الذي بحكمة أمه بدَّد ظلام صممه وحياته!
بل هذه هي المرأة التي تستطيع أن تُبدِّد ظلام مجتمعها!
والحكيم يُقدِّم المحبة بالكلمات وبالأعمال معًا؛ المحبة التي تُعلِّم وتنمّي الشخصية. كمحبة النَّسر الحكيمة في تعليم صغاره الطيران؛ فهو يبدأ بحمل صغيره في مِنقاره، ثم يطير به إلي ارتفاع شاهق، ثم يتركه في الهواء! ربّاه، ما أصعب ما يلاقيه الصغير! ولكن ما أن يبدأ في السقوط إلا ويسرع النَّسر بالطيران أسفل صغيره ليتلقاه حاملاً إيّاه علي جَناحيه المنبسطين، ليُسقطهم من جديد. وهكذا تتكرَّر هذه الدورة التدريبية مرات عديدة إلي أن تجيء اللحظة التي لا يحتاج فيها الصغير إلي جَناحي أبيه ويتقن الطيران؛ ووقتئذ فقط يُترك بمفرده ليمارس حياته معتمدًا علي نفسه في البحث عن الطعام.
والآن، ما أشد اللوم وما أقساها عبارات كانت سيوصف بها النَّسر لو تصورنا أنه ـ في جنون ـ ترك صغيره في العُش ليجرب أن يطير، ويسقط منه بمفرده، فإذ به يلاقي حتفه أو تنكسر عظامه!! وما أعمقها خيبة كان سيشعر بها النَّسر ، لو افترضنا أنه ـ في خوف مألوف علي الصغير ـ وضعه علي الأرض ثم نقره بمِنقاره لكي يحثه علي الطيران!!
إنه الخروج عن المألوف، والذي يتطلَّبه الأمر أحيانًا من الحكيم!
حقًا ما أعظم كلمات الحكيم: “لأنَّ الحكمة خير من اللآلئ، وكُل الجواهر لا تساويها”!
وعن حكمة شخصيات في مواقف وأقوال نستكمل رحلتنا في حديث وبقية…
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ